ظلت رغبة البشر في تفسير «السلوك البشري» مستمرة منذ آلاف السنين حتى عصرنا الحديث، كل ما قيل وما سيقال عن لغز الإنسان ليس إلا مجرد فرضيات عجز المفكرون والعلماء عن إثباتها علميًا، فغموض النفس البشرية والأسرار المحيطة بها جعلت من فكرة الوصول لفهم كامل للطبيعة البشرية ضربًا من الخيال، وتفسيرنا للسلوك البشري ما زال متوقفا على فهم الطبيعة البشرية الفطرية أو الأصلية. وفي سبيل صناعة مجتمع إنساني متسامح، يعيش أفراده بمساواة كاملة في ظل حقوق وواجبات متكافئة، يتطلب هذا الحلم الجميل أن نفهم طبيعة الإنسان، ونحررها من كل المؤثرات الاجتماعية والثقافية. هناك مفكرون ينظرون نظرة سوداوية للطبيعة البشرية، وهناك من يبرئها من كل الرواسب الاجتماعية. توماس هوبز يعتقد أن الإنسان بطبعه أناني مطبوع على حب الذات نتيجة فساد في تكوينه الفطري، لذلك يعتقد هوبز أن الوضع الطبيعي للعلاقات الإنسانية، حرب الجميع ضد الجميع، فالإنسان من وجهة نظره ذئب لأخيه الإنسان. في رواية «أمير الذباب» أراد الروائي الإنجليزي ويليام جولدنج أن يكشف عن الطبيعة البشرية، ويؤكد من خلال أبطال الرواية المتصارعين، أن الإنسان يولد وفيه غريزة الشر، وأن ترويض هذا الشر وكبح جماحه يقع على عاتق الإنسان نفسه. وامتدادا لسعي الإنسان الحثيث لكشف الحُجُب عن طبيعته الفطرية، وإماطة اللثام عن خفاياها الدفينة، فإن رغبته الملحة في فهم طبيعته المعقدة وصلت تجاه الأعظم وهو «لغز المرأة». كيف تفكر المرأة؟ وأين مكامن قوتها وضعفها، وكيف تستطيع غواية الرجل وتحدد مواطن ضعفه لإيقاعه في حبائلها؟ أسئلة عديدة تخرجنا من تيه وتقذف بنا لتيه آخر، جعلت عالم النفس الأمريكي جون غراي يصرح بأن الطريقة الوحيدة لفهم الجنس الآخر التعامل معه وكأنه مخلوق قادم من كوكب مختلف، فقد أخرج كتابه واسع الانتشار «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة». الرجال سكان كوكب المريخ، والنساء سكان كوكب الزهرة، التقوا في كوكب الأرض، وبعد التعارف حاول كل طرف فهم الآخر كي يتعايش معه ويكمل نقصه، مع أن لهما طبيعتان مختلفتان. تعتقد سيمون دو بوفوار أن «المرأة لم تولد امرأة وإنما تصبح كذلك»، ونتيجة تواطؤ مخلوقات كوكب المريخ ضد مخلوقات الزهرة، فإن الزهريات أصبح يطلق عليهن لقب «امرأة» ويلبسن لباس الأنوثة التي صممها الرجل ليضطهد المرأة ويجعلها تابعة له. فالزهريات يعشن على كوكب الأرض في ظل مؤامرة كونية بطلها سكان كوكب المريخ الأشرار. ولأن سيمون دو بوفوار كُشفت لها الحجب فقد فكت طلاسم الطبيعة البشرية ووجدت إجابة شافية مفادها أن المرأة لا تولد امرأة، وهذه الأنثى الفاتنة التي تسير على كوكب الأرض إنما هي نتيجة عوامل اجتماعية صنعتها أيدي الذكور الأشرار. قدمت الزهريات إلى كوكب الأرض كائنات محايدات لا يحملن أي صفات أنثوية أو ذكورية، فقام المريخيون بسرقة اللغة وتوظيفها في كتابة الأشعار الموجهة ثقافيا ضد المرأة، واستأثروا بتأويل النصوص المقدسة ليحددوا للزهريات مكانتهن وأدوارهن الاجتماعية وحتى صفاتهن البيولوجية على كوكب الأرض، كما تعتقد سيمون دو بوفوار التي تقول: «إذا كانت الفتاة تبدو لنا قبل بلوغها سن الرشد وأحيانا منذ حداثة طفولتها متميزة بطابع جنسي خاص، فهذا لا يعود إلى وجود دوافع فطرية غامضة تؤهلها لحياة السلبية والتبرج والأنوثة، وإنما إلى كون تدخل الآخرين في حياتها يبدأ أصلا من السنوات الأولى لطفولتها». حديث بوفوار واضح هنا، وهو أن كيان المرأة مصطنع غير حقيقي أو منتج ثقافي يمكن إعادة تشكيله أو توجيه سلوكه. هذه الأحكام المطلقة التي تطلقها سيمون دو بوفوار، تتطلب أولا فهما مسبقا للطبيعة البشرية وهذا ما تفتقده بوفوار. فضلا على أن أفكارها تنطوي على كثير من الإساءة لكيان المرأة وتصوير لها بالسلبية والضعف.
مشاركة :