العولمة قد ساعدت كثير من الشعوب فى تحسين مستويات معيشتها الا انها زادت بشكل ملحوظ من الفوارق أحداث عالمية هامة شهدها العالم مؤخرا أدت الى اعادة النظر في موضوع العولمة التي راجت بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الماضية. وتكاد جميع دول العالم تكون قد شاركت بشكل او بآخر فى انتشار العولمة بغض النظر عن المنهج السياسي والايديولوجي الذي تتبناه هذه الدول حتى ان بعض المفكرين قد وصف هذا الوضع من خلال تصور الكرة الارضية وقد أصبحت مصطحة بما معناه أن اوضاع الدول أصبحت متشابهه ومتماثلة الى حد كبير خاصة في أنماط المعيشة والممارسات المالية والاقتصادية وحتى في الأنظمة والممارسات السياسية. هذه الاوضاع توشك الآن أن تتغير من جانب نتيجة توجه كثير من الدول في انتهاج سياسات حمائية ومن جانب آخر نتيجة التوترات السياسية التي أدت الى تقلص وانكماش في العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. وضمن هذا الايطار يمكن أن نركز بشكل أكثر تحديدا على ثلاث متغيرات اساسية في هذا الشأن. المتغير الاول يتعلق بتصاعد النزعات الحمائية بسبب التداعيات السلبية للعولمة. وبالرغم من أن العولمة قد وسعت من خيارات الدول والافراد في الحصول على منتجات وخدمات متنوعة وبأسعار وتكاليف تنافسية الى حد كبير الا انها مع ذلك أدت الى هجرة كبيرة لبعض الوظائف والانشطة الاقتصادية حيث ان العولمة وان أدت الى ازدهار بعض المناطق الجغرافية في العالم الا انها في المقابل أفقدت صناعات ومناطق آخرى تقليدية ذلك الزخم الذي تمتعت به خلال الفترة السابقة لظهور وانتشار العولمة. وبالطبع فإن مثل هذه التغيرات قد رافقها انتقال كثيرا من الوظائف والاعمال من الدول والمناطق التقليدية الى مناطق جغرافية جديدة أكثر تنافسية ليس بالضرورة على اساس رخص الايدي العاملة فقط ولكن ايضا بسبب كفاءة الاداء ومستوى الانتاجية والانضباط وغيرها من سلوكيات العمل. المتغير الثاني في ردة الفعل تجاه العولمة هو ماترتب عليها من اتساع الفجوة في مستوى الدخل بين الافراد داخل الدولة الواحدة وفيما بين الدول بشكل عام. صحيح أن العولمة قد ساعدت كثير من الشعوب فى تحسين مستويات معيشتها الا انها زادت بشكل ملحوظ من الفوارق الطبقية بين الاغنياء والفقراء. وللأسف لم تستطع السلطات التشريعية من التصدي لهذه الظاهرة الامر الذي انعكس في شكل تذمر وعداء للعولمة. هذين المتغيرين المتمثلين في هجرة الوظائف والصناعات واتساع الفجوة في توزيع الدخل كانت وراء تطور سياسي لا يقل أهمية في معاداة العولمة والمتمثل في تصاعد شعبية الاحزاب المتطرفة والمتعارف عليها بالاحزاب الشعبوية. هذه الاحزاب في الواقع تستقي شعبيتها المتصاعدة من التذمر والعداء للعولمة وبالتالي طالما أن هذه الاحزاب تحظى بالتأيد والقبول والانتشار فإن استعادة العولمة لمكانتها وحيويتها قد يكون امرا صعبا ان لم يكن مستبعدا على الاطلاق. يبقى أن نتطرق الى المتغير الثالث والاخير في تطور مجرى الامور حول العولمة. حرب أوكرانيا التي اندلعت فى فبراير من هذا العام أتت لتضيف مزيدا من العقبات امام ظاهرة العولمة. وبغض النظر عن المبررات التي على اساسها اتخذت الدول الغربية كثيرا من الاجراءات تجاه روسيا الا انه في المحصلة فإن هذه الاجراءات تؤدي الى اضعاف العلاقات الاقتصادية بين الغرب وروسيا بما يشمل العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية. ان مقاطعة الغرب لاستيراد النفط والغاز الروسي من شأنه فقدان شريان هام من التعاملات التجارية. كذلك فإن عزل بعض المصارف الروسية عن التعامل من خلال نظام المدفوعات العالمي من شأنه كذالك أن يقلص من حجم التحويلات المالية. على صعيد آخر فإن الشلل الذي تعاني منه موانئ التصدير الأوكرانية نتيجة لهذه الحرب من شأنه ايضا ان يعيق انتقال المحاصيل والمواد الغذائية ويفقد بالتالي التجارة الدولية جزءا هاما من التعاملات التي ترسخت مع تطور واتساع ظاهرة العولمة. ولا يجب مع ذلك أن نعتقد بأن هذه العقبات التي تواجه العولمة نتيجة حرب أوكرانيا سوف تختفي بمجرد انتهاء هذه الحرب حيث أن المفاوضات لاخراج روسيا من الاراضي التي احتلتها في أوكرانيا وكذلك اجبارها على دفع تعويضات الدمار الذي لحق بأوكرانيا لن تكون عملية سهلة او سريعة وبالتالي ستستمر المقاطعة الاقتصادية لروسيا لفترة طويلة نسبيا الامر الذي سيكرس من هذا الوضع ويؤجل في عودة العلاقات الاقتصادية الدولية لسابق عهدها وبالتالي استمرار تراجع العولمة وتضائل فرصها في استعادة الزخم الذي شهدته خلال الفترة الماضية. اذا فان الاوضاع الحالية والتي أهما النزعة الحمائية واتساع الفجوة في مستويات الدخل بالأضافة الى تصاعد شعبية الاحزاب المتطرفة وتداعيات حرب أوكرانيا كلها عوامل واسباب تشير الى أن تراجع العولمة لا تبدو مجرد ظروف مؤقته بل هي حسبما يبدو أوضاع متشابكة ومعقدة وقد تكون عسيرة الحل على الاقل فى المدى المنظور. *الرئيس السابق لصندوق النقد العربي
مشاركة :