«عبارة مكتملة.. لكنها ناقصة»

  • 12/18/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تبقى عبارات كثيرة ناقصة حتى لو قيلت بشكل تبدو فيه أنها مُكتملة، وكثير من تلك النوعية للعبارات يتم استخدامها في الحديث الطبي، سواء في الجانب الإخباري أو البحثي أو النصائح الطبية أو المعلومات الطبية. ومنشأ النقص على الرغم من اكتمال مكونات صياغة العبارة هو بسبب كيفية قراءتها وترجمتها إلى معلومة مفيدة وكيفية توظيف تلك المعلومة لتطبيقها على هيئة نصائح طبية أو استنتاجات علمية، وخصوصًا عندما تتعارض مع إرشادات ونصائح وحقائق طبية ثبت أنها مفيدة لصحة الإنسان ووقايته من الأمراض. لنأخذ مثالاً موضوع الغازات الدفيئة في الاحتباس الحراري والدراسة التي تم نشرها ضمن عدد ديسمبر (كانون الأول) الحالي من مجلة «نظم البيئة والقرارات» (Environment Systems and Decisions)، حول التأثيرات البيئية السلبية لحرص الناس على تناول وجبات الطعام المحتوية بنسبة عالية على الخضار والفواكه اتباعًا للإرشادات والنصائح الطبية. وكتوطئة مختصرة للعرض، ثمة ما يُعرف علميًا بـ«انبعاث الغازات الدفيئة» (Greenhouse Gas Emissions)، والغازات الدفيئة هي غازات توجد في الغلاف الجوي للأرض تتميز بقدراتها على امتصاص الأشعة تحت الحمراء التي تفقدها الأرض. وبخار الماء والغيوم وغاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وغاز الأوزون هي من أهم تلك الغازات. وامتصاص الغازات الدفيئة لحرارة الأشعة تحت الحمراء هذه يعني مزيدًا من حبس الحرارة في الأرض وتسخينها وعدم خروجها منه، وهو ما بالتالي يُسهم في تسخين الأرض ونشوء ظاهرة الاحتباس الحراري. وتعامل تلك الغازات مع أشعة الشمس يُسهم في تكوين ظاهرة الاحترار العالمي. القصة معقدة جدًا فيزيائيًا وبيولوجيًا واقتصاديًا، ولكن لنبقَ في الجانب الطبي، إذ إن دراسة الباحثين من جامعة كارينغ ميلون بولاية بنسلفانيا الأميركية عرضتها الأخبار الطبية بعبارات «الغذاء النباتي والوجبات الغذائية الصحية هي أكثر ضررا على البيئة: تناول الخس هو ثلاث مرات أسوأ في انبعاثات غازات الدفيئة من أكل لحم الخنزير المقدد». وأفاد الباحثون بأن دراستهم تتبعت التغيرات في استهلاك الطاقة، وبصمة الماء الزرقاء (Blue Water Footprint)، وكمية الغازات الدفيئة المنبعثة المرتبطة باستهلاك المنتجات الغذائية التي تنصح بها الإرشادات الطبية. وللتقريب، فإن بصمة الماء الزرقاء هي حجم المياه العذبة التي تبخرت أو فقدت من موارد المياه الزرقاء العالمية، أي المياه السطحية والجوفية، لإنتاج سلعة غذائية أو غير غذائية. وعلق البروفسور بول فيشبيك، الباحث في الدراسة والمتخصص في علوم هندسة وعلوم القرار، بالقول: «كثير من الخضراوات الشائعة تستهلك مصادر لكل كالوري (سعر حراري) فيها أكثر مما نظن، والخس والباذنجان الأسود والخيار تبدو سيئة مقارنة بلحم الدجاج أو الخنزير». وتحديدًا تتبع الباحثون سلسلة توريد الطعام، بدءا من الإنتاج الزراعي والتحضير الصناعي والنقل والتبريد والعرض في المتاجر وغيرها وصولاً إلى فم المستهلك. وتوصل الباحثون إلى أن تناول الطعام الصحي المنصوح به طبيًا، أي مزيج من الخضار والفواكه ومشتقات الألبان والأسماك، يزيد الأعباء البيئية في ثلاثة جوانب: رفع نسبة استهلاك الطاقة بمقدار 38 في المائة، ورفع مستوى استهلاك الماء بنسبة 10 في المائة، ورفع انبعاث الغازات الدفيئة بنسبة 6 في المائة. ولكن بالمقابل لاحظوا أن ضبط وزن الجسم وتقليل تناول الطعام له تأثيرات إيجابية على البيئة ويُقلل من استهلاك الماء ومن انبعاث الغازات الدفيئة بنسبة 9 في المائة. ولكن العبارة هنا وإن كانت مكتملة فهي في الواقع ناقصة، ذلك أن السؤال أو بقية العبارة: ما الذي يحلّ بكل هذه الكميات من المنتجات الغذائية الصحية؟ ووفق ما تم نشره ضمن عدد أغسطس (آب) الماضي من مجلة الزراعة المتجددة والنظم الغذائية (Renewable Agriculture and Food Systems)، للباحثين من جامعة ميسوري في كولومبيا فإن هدر أطعمة اللحوم له تأثيرات بيئية سلبية أكبر من هدر الأطعمة النباتية، ولاحظ الباحثون أن هدر أطعمة اللحوم هو في الواقع الملاحظ أدنى من هدر الأطعمة النباتية ولكن كميات أعلى من الطاقة تُستخدم في إنتاج اللحوم مقارنة بإنتاج الخضار والفواكه. وذكر الباحثون حقائق تستحق التأمل، منها أن 31 في المائة من إنتاج الأطعمة في الولايات المتحدة، أي 133 مليار رطل بقيمة 162 مليار دولار، تم هدرها في عام 2011 وفق إحصائيات وزارعة الزراعة الأميركية. وهدف الباحثون إلى تتبع تأثيرات هذا الهدر في استهلاك الناس للأطعمة وشراء وطهو ما لا حاجة للإنسان في تناوله مما يكون مصيره إلى أكوام النفايات. كما نشر الباحثون من كلية جونز هوبكنز للصحة العامة، ضمن عدد 10 يونيو (حزيران) الماضي من مجلة «بلوس وان» (PLOS ONE)، نتائج دراستهم أن غالبية الأميركيين لا يعلمون عن حجم مشكلة هدر الأطعمة، وأن ثلاثة أرباع المشمولين في الدراسة، وكانوا أكثر من ألف شخص، أفادوا بأن حجم المشكلة أقل بكثير مما هو واقع فعليًا كما أفاد الباحثون. وقال الباحثون في دراستهم إن ما بين 30 إلى 40 في المائة من كمية الأطعمة تذهب إلى النفايات، إما من البيوت وإما من المطاعم وإما من المخازن، وإن أكبر حجم للأطعمة التي يتم هدرها، بمقدار الوزن، هو الخضار والفواكه، وهو ما يُكلف أكثر من 160 مليار دولار سنويًا. الإرشادات الطبية بضرورة تناول الأطعمة الصحية تدعمها الأدلة العلمية، والحفاظ على الصحة من أهم الاستثمارات على كل المستويات، وإنتاج الأطعمة الصحية والحرص على تناولها هو أفضل ما يُقدمه المرء لنفسه، ولكن تبقى العبارة ناقصة في جانب الحفاظ على البيئة دون الاهتمام والنظر إلى واقع تعاملنا مع الأطعمة التي نحصل عليها ومدى حرصنا على حفظ هذه النعم وصيانتها من الهدر، وحينها قد تتدني الحاجة إلى إنتاج أطعمة لا يستهلكها البشر ولا يتناولونها وتخف الأعباء البيئة لإنتاج الأطعمة. * استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض h.sandokji@asharqalawsat.com

مشاركة :