الأزمات تكشف بواطن الخلل والقصور في التخطيط والاستعداد للمستقبل أو كما يقال هي المحاسب الكبير وقد تكون الأعوام الخمسة عشرة الماضية حملت معها العديد من الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية ثم جاء تفشي فايروس كورونا كأزمة صحية قبل عامين تبعها تداعيات اقتصادية ما زال العالم يعايشها وآخر تلك الأزمات حرب روسيا على أوكرانيا وما تسببت به من ضغوط تضخمية بسبب الزيادة بأسعار السلع الغذائية كالحبوب بما أن الدولتين من أكبر مصدري هذه السلع وكذلك ارتفاع بأسعار الطاقة، النفط، الغاز، والفحم الحجري بعد أن فرضت أمريكا وحلفاءها حزمة عقوبات على موسكو شملت من بعض الدول إيقاف وتقليص استيراد الغاز والنفط الروسي ومشتقاته لكن ماذا كشفت هذه الأزمة التي يجاهد العالم لتجاوزها بمحاولة إيجاد حل سياسي وأمني يوقف الحرب ومخاطر استمرارها واحتمال توسعها. في الحقيقة أهم ما كشفت عنه هذه الأزمة أن ما كان يسير عليه الغرب من خطط لزيادة إنتاج الطاقة المتحددة كالرياح والطاقة الشمسية وغيرها واستمرار التوجه لتقليص استخدام النفط والغاز وهو ما قاموا به منذ سنوات من خلال إجراءات عديدة أهمها تراجع استثمارات شركات كبرى تحمل جنسية هذه الدول في استكشاف وإنتاج النفط والغاز وطبعا الفحم الحجري وكذلك تراجع السعة التكريرية لمشتقات نفطية ثبت أن كل ذلك كان عكس توقعاتهم ولأن مزيج الطاقة لديهم أصابه خلل كبير مع ظهور خطورة توقف إمدادات الغاز والنفط من روسيا إذا ما سارت كل دول أوروبا نحو ذلك خصوصاً أنهم أمام موقف حرج جداً إذ لايمكنهم دعم أوكرانيا عسكرياً ومادياً وبنفس الوقت يشترون الطاقة من روسيا فيمولون حربها على كييف لأن ذلك يعد تناقضاً في مواقفهم وبالمقابل فإن التوافق الأوروبي على وقف استيراد الغاز والنفط من روسيا معدوم لأن الأخيرة تصدر لأوروبا 40 بالمائة من احتياجهم للغاز وكذلك 25 بالمائة من احتياجهم النفطي فالمأزق كبير في أوروبا اقتصادياً وأخلاقياً وسياسياً وحتى لو أنهم يطبقون عقوبات يقولون إنها لن تتسبب بأذى مؤثر لهم لكن ذلك لن يدوم فإطالة أمد الحرب سينقلها لمربعات ومراحل أكثر خطورة كالتوسع والتصعيد وهو ما لا يريده أحد منهم بكل تأكيد بما في ذلك روسيا. لكن هل توقف هذه الحرب سينهي ارتفاع أسعار الطاقة؟ الجواب هو لا بحسب ما توافق عليه الكثير من المسؤولين في قطاع الطاقة العالمي من وزراء طاقة ورؤساء شركات نفط وغاز وكذلك بيوت المال العالمية والأسباب التي يستندون عليها عديدة وجوهرية لعل أولها تراجع الاستثمارات من الغرب بإنتاج النفط بسبب التوجه المتسارع للطاقة المتجددة التي أثبتت أنها غير آمنة لأنها ليست مستقرة وتتحكم فيها عوامل المناخ كما أنهم ومنذ عقود توقفت الكثير من دولهم عن بناء معامل التكرير إضافة لإصدار أنظمة بيئية حدت من التوسع بتكرير المشتقات النفطية فهذه الأزمة السياسية التي تحولت لحرب ازاحت الستارة عن مشهد مستقبل الطاقة بالعالم وأن الطلب على النفط والغاز سيبقى مرتفعا وبمعدلات نمو تفوق زيادة الطاقة الإنتاجية أي أنه وفي غضون الأعوام السبعة القادمة إذا لم تتغير خطط هيكل الطاقة بالعالم وعادت الاستثمارات لزيادة إنتاج النفط فإن ما نشهده من تضخم عالمي بأسعار السلع ما هو إلا مرحلة بسيطة من التضخم مستقبلاً إذا لم توضع خطط لزيادة إنتاج النفط والغاز فحتى الفحم الحجري بدأت دول تخلت عنه بنسبة كبيرة سابقاً بالعودة للاعتماد عليه في إنتاج الكهرباء مثل ألمانيا والنمسا وغيرهما فوزير الاقتصاد الألماني قال قبل أسابيع يجب الاستعداد لفترة طويلة من أسعار طاقة مرتفعة كما يلاحظ التباين الكبير في إجراءات أمريكا لخفض أسعار الوقود لديها فبين العودة للمطالبة بزيادة حجم التكرير للمشتقات النفطية من قبل الشركات العاملة بسوقها إلى التفكير بوقف تصدير تلك المشتقات واحتمال خفض الضرائب ومطالبة شركات النفط باستثمار ما لديهم من رخص تنقيب وإنتاج رغم أن حكومة الرئيس بايدن والديمقراطيين عموما هم عكس ذلك ويدعمون الاستثمار بالطاقة المتجددة ومسؤولون عن أغلب الأنظمة البيئية التي صدرت خلال السنوات الماضية وقللت من إنتاج مصافي النفط وحتى إنتاج الخام لديهم فمن الواضح أن الحلول التي ينتهجونها هي يمكن تسميتها بالترقيعية لكنها ليست بالاستراتيجية أو ذات ديمومة. قد تتقلب أسعار النفط لكن أغلب التوقعات تشير إلى متوسطات مرتفعة فوق مائة دولار لفترة طويلة فلطالما حذرت دول أوبك من تراجع الاستثمارات عالمياً على التنقيب وإنتاج النفط ويبدو أن ما كانوا يتخوفون منه بدأت معالمه الأولية تظهر حالياً لكن الأثر مستقبلاً يبدو بالغاً إذا لم يعد النظر من قبل كبار المستهلكين في الغرب بخططهم لهيكل الطاقة لديهم وعادوا لتشجيع شركاتهم المختصة بالطاقة على الاستثمار وزيادة الإنتاج بالوقود الأحفوري والنظر بتوازن في توجهاتهم البيئية بما لا يضر بالاقتصاد العالمي ولا بالمناخ وذلك ممكن إذا استمعوا جيداً لآراء كافة الدول التي تريد حلول للمناخ تشمل كل شيء يؤثر فيه وليس تحميل النفط والغاز المسؤولية عن التغير المناخي مما سيؤدي لأزمة طاقة مستدامة لسنوات ليست بالقصيرة وما سينعكس من تبعات بارتفاع الأسعار لمستويات لا يمكن توقعها وغالباً ستكون غير مسبوقة.
مشاركة :