من السهل أن تتحول بعض الكائنات إلى رموز مفعمة بالتضاد لدى بعض الفنانين، فالفنان التشكيلي قادر على تطويع أدق التفاصيل في محيطه لينجز منها لوحاته المميزة، ومن هؤلاء الفنانة السورية عزّة أبوربيعة التي حولت الفراشة إلى انعكاس واضح وفاضح لتجربتها الإنسانية ولآمالها وأحلامها التي تشترك في الكثير منها مع آمال وأحلام السوريين أينما كانوا وحتى مع الإنسان في أزمنة وأمكنة كثيرة. تقيم صالة “صالح بركات” في بيروت معرضا للفنانة السورية عزّة أبوربيعة بعنوان “توق” يتواصل حتى الثالث والعشرين من يوليو الجاري بمشاركات للمؤلف الموسيقيّ خالد عمران ومهندس الصوت طارق خلوتي، وعمل تركيبي للفنانةّ نيلسي مسعود في الطابق الأرضي من الصالة حمل عنوان “تحوّل” ويجسد بطريقة فنية فكرة الشرنقة أكثر من تركيزه على حيثياتها الفيزيائية. وما تقدمه نيلسي مسعود متصل -بشكل أو بآخر- بما سيراه زائر المعرض من أعمال للفنانة عزة أبوربيعة في القاعة السفلية للصالة. غالبا ما تكون قراءة الأعمال، التي ينتجها فنان معروف عنه اتصاله المباشر شبه العضوي بما مرّ به من ظروف حياتية قاهرة، متأثرة بشكل مباشر بتلك الظروف التي عاشها. غير أن القيمة الفنية للسرد البصري الذي تطرحه عزة أبوربيعة أمامنا اليوم لا تحتاج إلى العودة إلى الأعمال التي قدمتها في معارضها السابقة لتكون ذات قيمة فنية عالية جدا. كما لا تتطلب تلك الأعمال من المُشاهد أن يكون مطّلعا على الظروف النفسية التي مرت بها الفنانة كي تصل إلى هذا النوع من السرد كثير الحساسية والمتميّز عن سائر التجارب الفنية المعاصرة. توق إلى الانطلاق والتحرر ◙ عزّة تحمل وجعها إلى لوحاتها ◙ عزّة تحمل وجعها إلى لوحاتها يكفي أن يسترسل المُشاهد في نظراته كي يكوّن في خياله، انطلاقا من مجموعة الأعمال المعروضة، قصة فراشة وتحولاتها الملونة بالغة الشفافية والتي تبوح بالفرح الضئيل والحزن الذي اكتسى أجنحة طفولية وسمح للضوء والنسيم بأن يتغلغلا في نسيجه فيزيدا من هشاشته، وبالتالي من شاعريته المرتبطة ارتباطا وثيقا بدرامية الوجود بشكل عام وبما تعرفه عن الفنانة أو ما يشدك لمعرفته ومعرفة الظروف التي استطاعت أن تنتج نصا ملونا وشفافا ناجيا من عوالم كئيبة سابقة حقنها الأسود بمرارته. وقد عنونت الفنانة معرضها بـ”توق”، وهو توق الفراشة إلى الانطلاق من شرنقتها غير المعبرة عن زمن الطفولة بقدر ما هي إشارة إلى تجربة الأسر التي عاشتها مع نساء سوريات مثلها في سجون النظام السوري. واللافت في ما تقدمه الفنانة عزة أبوربيعة هو التعريف البصري الجديد لمعنى الشرنقة. لأن الفراشة التي خرجت من شرنقتها ما برحت تحمل في كل لوحة من لوحاتها مراحل تحولاتها من يرقة إلى فراشة غير مكتملة الملامح على النحو الذي نعرفه عند مختلف أنواع الفراشات. هي دائمة التحول المُوجع حينا والمبهج حينا آخر، وفي ذلك تستحيل فراشة عزة أبوربيعة إلى فراشة إنسانية، أي عكس كونها “بشارة” لا تحمل إلا الأخبار الحلوة. إنها تطير في مهب الرياح الحياتية. تتورد حينا وتنطوي على ذاتها حينا آخر. تفرد جناحيها حينا وتظهرهما لنا على أنهما أطراف بشرية لينة هي بخفة النسيم و”بهول” الحب في زمن الخوف. تحمل بوارق أشجار في أرحامها تارة وتلتقي بمن تحب في توترات بصرية عنوانها الشغف والخفر في آن واحد. وجوه متباينة المشاعر وجوه متباينة المشاعر في اللوحات متعددة القياسات الطولية والعرضية تستخدم الفنانة تقنيات مختلفة من رسم وخيوط ملصقة وطباعة باستخدام “أكواتينت” على الورق، واستخدام قماشة التول بالغة الشفافية والرقة حتى تماهيها مع قماش وورق اللوحات لتبدو من بعيد أنها ألوان وليست مواد مُلصقة. في هذه اللوحات تغمض الفراشة/اليرقة عينيها حينا وتفتحهما حينا آخر لتشبها عيون الأطفال الظريفة والطريفة وشبه المستديرة وكثيرة التعبير من دون الرموش، وهي تعبّر عن مختلف أنواع المشاعر وأكثفها من حب وخوف ودهشة وورع ومرح، ووحشة وحذر وانتظار. وتذكّر بعض وجوه فراشاتها بوجوه أطفال سوريا المُغبرّة كما كنا نشاهدهم في نشرات الأخبار حيث سقطت دمعة من العيون وصولا إلى أسفل الخد فأحدثت مسارا أبيض. إنها فراشة أو يرقة أو ربما شرنقة تلهو معنا بأسلوب نسيجيّ وبلعبة مشوقة تشبه لعبة الغمّيضة التي اعتدنا أن نلعبها في طفولتنا. فهي دائمة التحول المُوجع حينا والمبهج حينا آخر في تخفّيها وظهورها، لذلك وفي أكثر من لوحة لا يتوقف الناظر إلى لوحات الفنانة السورية عن رؤية اليرقة في الفراشة، والعكس بالعكس. فكيف إذًا يمكن للمُشاهد أن يقبض عليها في ظهور واحد وشكل واحد وهي احترفت الهروب من شباك النظر بهيئة مُستقرة على حال؟ المعرض توق الفراشة إلى الانطلاق من شرنقتها وإشارة إلى تجربة الأسر التي عاشتها الفنانة مع نساء سوريات مثلها وتقدم الفنانة أعمالها ببضع كلمات متقطعة ومتصلة بخيوط دقيقة ولامعة تتلاشى هنا وهناك بين الكلمات إذ تقول “أن أفعل كل شيء.. وكل شيء.. أن أطير وأسقط.. وأضرب فأهرب.. أثور وأهدأ.. أعشق وأكره.. أموت فأحيا.. أحمل وألد.. أطير.. أطير وأسقط.. أخاف وأثور.. أرتجف وأدفأ.. أبكي وأضحك. هكذا هو إيقاع رفرفة أجنحتها! أخذ وردّ يصنعان مسار حركتها.. كنبضات قلب ولهفته.. توق عطش لفعل كل شيء واللاشيء”. غادرت الغربان والخفافيش ومخلوقات الظلمة فضاء وأجواء لوحات عزّة أبوربيعة السابقة، لاسيما التي حضرت بقوة في معرضها الأول “أثر” كي يحلّ زمن الفراشات المتأملة غير المكتملة، وتحوّل تعبيرها السابق عن التهجير القسري الذي عانى منه السوريون خلال الحرب وبعدها إلى تحليق فراشة من خارج شرنقتها في لحظة مفصلية درامية أرخت عليها تجربة حب عاشتها الفنانة كـ”توله” فضي شفاف يحفظ من أي توهج حارق. وفي انتقالها من لوحة إلى أخرى تركت فراشة عزّة أثرا بعد أثر في “حركيّة الانتقال في الزمان والمكان”، كما ذكر البيان الصحافي للمعرض. وهي بذلك لم تخرج عن منطق صاحبتها (أي الفنانة) حينما ذكرت في الكتيب المرافق لمعرضها الأول المعنون بـ”أثر”: “لا أريد من الجيل الذي يليني أن يطفو بلا ذاكرة، كتبت على حائط مرسمي الحالي في بيروت: إن لم أرسم فلا معنى لوجودي، سأسجل ما عشت، وأترك هذا الأثر في أعمال الحفر”. وإن كان ثمة نص شعري يستطيع أن يطلق جناحي فراشة الفنانة عزّة أبوربيعة في أفق الزمن المفتوح، والتباس الأمكنة الشفافة والمتداخلة بنصاعتها وأثرها على بعضها البعض فسيكون ما كتبه الرائع محمود درويش في قصيدته “أثر الفراشة”، إذ قال “أثر الفراشة لا يرى.. أثر الفراشة لا يزول.. هو جاذبية غامض.. يستدرج المعنى، ويرحل.. حتى يتضح السبيل.. هو خفة الأبدي في اليومي.. أشواق إلى أعلى.. وإشراق جميل”.
مشاركة :