العالم يتبدل.. لماذا البكاء على الطبقة الوسطى؟ هناك عالم جديد يتشكل ومعه تتشكل مفاهيم جديدة إن لم نقبل بهذه الحقيقة سيكون مصيرنا أن نتبدد ليس بفعل التغير المناخي والحروب والأوبئة بل لعجزنا عن فهم التغيرات الحاصلة من حولنا. عالم جديد بصدد التشكل الخلاف بين اتحاد الشغل وبين الحكومة التي يقودها الرئيس التونسي قيس سعيد حول سياسة الدعم الحكومي لا يمكن وصفه إلا بالعبث. البكاء على الطبقة الوسطى وتآكلها فات أوانه ولم يعد مجديا. هناك تغيرات حدثت في العالم لا يمكن تجاوزها والقفز من فوقها. أهم هذه التبدلات تلك التي طالت المفهوم التقليدي المتوارث عن الثورة الصناعية الأولى حول المجتمع بطبقاته الثلاث. اليوم لم يعد لهذا المفهوم من معنى. حتى الأمس القريب كانت الطبقة الوسطى أمّ الطبقات، تآكلها هو تآكل للمجتمع. فهي تشمل، فيما تشمل: المعلمين، والمهندسين، والمحاسبين، والأطباء، والمحامين، والحرفيين المهرة، والبنائين، والعاملين في قطاع الإعلام والتكنولوجيا، والأمن، والجيش، ومؤسسات الدولة وشريحة واسعة من العاملين في القطاعين السياحي والفلاحي.. عوامل عدة تسببت مؤخرا بانزياحات في الطبقات الاجتماعية الثلاث المتفق عليها، ولكن الانزياح الأكبر الذي ستترتب عليه تبدلات كبيرة هو تآكل الطبقة الوسطى، بل واختفاؤها. صحيح أن نسبة قليلة بين المنتمين إليها نجحوا في ارتقاء السلم الطبقي والتحقوا بطبقة الأثرياء، لكنهم نسبة قليلة لا تشكل سوى قشرة خارجية رقيقة. مع هذه الانزياحات يصبح الحديث عن المجتمع وطبقاته مجرد عبث. الانزياحات حدثت بفعل الثورة الصناعية الرابعة، وهي التسمية التي أطلقها المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا، عام 2016، على الحلقة الأخيرة من سلسلة الثورات الصناعية. عالم جديد يتشكل. الفرد فيه هو السيد. إما أن نكون جزءا من هذا العالم، أو نستعد لما هو أسوأ وكما أحدثت الثورات الصناعية الثلاث السابقة، التي بدأ أولها أواخر القرن الثامن عشر، تغييرات كبيرة في نمط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، تمثلت في تطور الحياة الزراعية البدائية التي استمرت نحو عشرة آلاف سنة، إلى نمط حياة يعتمد التكنولوجيا على المستويين الفردي والمجتمعي، نقف اليوم على مقربة من ثورة جديدة ستغيِّر الطريقة التي نعيش ونعمل بها. ويكون حجم التحول فيها ونطاقه وتعقيداته “مختلفاً عما شهدته البشرية من قبل”، وفق كلاوس شواب، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنتدى دافوس، في كلمته الافتتاحية لجدول أعمال المؤتمر عام 2016. الثورة الصناعية الرابعة وريثة إنجازات كبيرة حققتها الثورة الصناعية الثالثة، خاصة شبكة الإنترنت وطاقة المعالجة الهائلة، والقدرة على تخزين المعلومات، والإمكانات غير المحدودة للوصول إلى المعرفة. وهي إنجازات فتحت الأبواب أمام احتمالات لا حدود لها أحدثتها الاختراقات الكبيرة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والمركبات ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم المواد، والحوسبة الكمومية، وسلسلة الكتل.. وغيرها. في الماضي تم الانتقال من مرحلة إلى أخرى ببطء نسبي، متيحا للأفراد وللشركات الوقت الكافي لهضم ما يحدث والتأقلم معه. لم تكن هناك صدمات مفاجئة. وكما لم تستطع الطبقة الأرستقراطية لكبار ملاك الأراضي الزراعية الوقوف في وجه الطبقة البرجوازية، مع تنامي الصناعات ليكون مصيرها الاضمحلال، لن تستطيع الطبقة الوسطى تلافي قدرها والوقوف في وجه عالم جديد يتشكل. للاستمرار، وتلافي الآثار السلبية الناجمة عن هذه الصدمات، يجب أن نقبل أن الطبقة الوسطى، بالمفهوم الذي ساد طويلا على المستوى العالمي، لم يعد لها من وجود. هناك تغيرات ستترتب عليها إعادة صياغة المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تبنّي حلول قد تبدو حاليا طوباوية. وقد سمعنا بعضا منها؛ هناك من اقترح فرض ضريبة دخل على الروبوتات للإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية. الثورة الصناعية الرابعة، وليست كورونا ولا الحرب الأوكرانية، هي ما يحدث التغيير الذي يجري في العالم حاليا، مزيحا الطبقة الوسطى ومعها المفهوم التقليدي للطبقات الاجتماعية الثلاث، التي هي نتاج للثورة الصناعية الأولى. هناك عالم جديد يتشكل. ومعه تتشكل مفاهيم اجتماعية واقتصادية جديدة. إن لم نقبل بهذه الحقيقة ونتبدل، سيكون مصيرنا الواضح والمؤكد هو أن نتبدد. ليس فقط بفعل التغير المناخي والحروب والأوبئة، بل لعجزنا عن فهم التغيرات الحاصلة من حولنا. وبينما تضعنا التحولات الحاصلة أمام تحديات كبيرة، نختلف فيما بيننا حول من جاء أولا، البيضة أم الدجاجة. النقاش الدائر حول رفع الدعم الحكومي أو عدم رفعه، مجرد عبث. القضية أكبر من ذلك. واللافت للنظر أن خلافاتنا حول سياسات الدعم تستمر في الوقت الذي ترتفع فيه فاتورة الإنفاق في أوروبا على المعونات الاجتماعية، ليس لدوافع إنسانية فقط، ولكن كي لا يقع المطرودون من جنة الطبقة الوسطى في فخ الإرهاب والعنف، ويتاح للطبقة الجديدة الشابة من التكنوقراط الوقت والبيئة الملائمة لتنمية ثرواتها. ما ينفع التونسيين هو إزاحة الخلافات جانبا، ومواجهتهم بالحقائق، وعلى رأس تلك الحقائق أن عالم الغد لا توجد فيه طبقة وسطى الجميع هنا رابح. اقتراح فرض الضرائب على الروبوتات وزيادتها على الأثرياء، تأتي في هذا السياق، حتى تتمكن الدولة من زيادة الإنفاق على الأسر الأقل دخلا. مازلنا حتى اليوم أسرى مفاهيم تقليدية حول صناعة الثروة، رغم التبدلات المتسارعة من حولنا. أهم تبدل هو السرعة التي يتم فيها تراكم الثروات. الثروات اليوم كما الفطر، تظهر فجأة وتنمو خلال دقائق. وارن بافيت، احتاج إلى جهد نصف قرن أو أكثر لجمع ثروته. جاء أيلون ماسك وأزاحه بعيدا خلال أشهر. فعلها أيضا مارك زوكربيرغ، لعبة في يده تحولت إلى إمبراطورية تؤثر على الرأي العام أكثر من إمبراطورية إعلامية صنعها مردوخ واستغرق بناؤها، أيضا، نصف قرن. بينما تتنازع عشرات الأحزاب في تونس حول الدستور وحول سياسات الدعم، ويتحدث الناس عن خلافات بين اتحاد الشغل وبين رئاسة الحكومة، تبنى في العالم ثروات تنمو كالفطر. كلا الطرفين المتنازعين يتفقان على ضرورة الدعم، بل كلاهما يتفق أيضا على ضرورة زيادة هذا الدعم، ما يختلفان حوله هو كيف يقدم الدعم، وما هي مصادر هذا الدعم. كما هي المادة، الثروة لا تأتي من عدم. حاليا الطرفان مختلفان حول شيء لا يمتلكانه. كان من الأفضل والأجدى أن يكون الاختلاف حول صناعة الثروة. ما ينطبق على الدعم ينطبق أيضا على أرقام العاطلين عن العمل الذين يطلق عليهم في تونس تسمية ذات مغزى، “معطّلين”. حشر آلاف الموظفين في وظائف وهمية بطالة مقنعة هدفها التضليل. لن ينفع أن نثير مخاوف التونسيين بعناوين مثل هذه: مليون عائلة تونسية تنتمي إلى الطبقة الوسطى عرضة للفقر. أرقام البطالة تتجاوز 19 في المئة. الدينار في انحدار. التضخم يلتهم مدخرات التونسيين. علينا أن نقبل الأمر الواقع: الطبقة الوسطى في العالم في طريقها إلى الاضمحلال. العالم يستعد لرؤية تزايد في أرقام البطالة. والتضخم أصبح ظاهرة عالمية. وتونس ليست سوى جزء من هذا العالم، يصيبها ما يصيبه. ما ينفع التونسيين هو إزاحة الخلافات جانبا، ومواجهتهم بالحقائق، وعلى رأس تلك الحقائق أن عالم الغد لا توجد فيه طبقة وسطى. عالم الغد، الفرد فيه هو صانع الثروات. مواطن واحد في بيئة صالحة، بإمكانه أن يصنع ثروة تفوق ما تطلبه تونس من صندوق النقد الدولي. النقاش الدائر بين الأطراف التونسية لا يأخذ في الاعتبار التغيرات التي تجري في العالم. والحديث هنا ليس عن كورونا، ولا عن حرب أوكرانية وأزمة غذاء ناجمة عنها. بل عن عالم جديد يتشكل. الفرد فيه هو السيد. إما أن نكون جزءا من هذا العالم، أو نستعد لما هو أسوأ. علي قاسم كاتب سوري مقيم في تونس
مشاركة :