تراجع حالة حقوق الإنسان في أي مجتمع، خاصة تلك المتعلقة بقضايا المرأة وتمس بحقوقها، يعكس بصورة واضحة طبيعة هذا المجتمع وجوهر وظيفة النظام السياسي الذي يديره. فانتشارالعنف ضد النساء سيما جرائم القتل وجميع أشكال العنف الأخرى التي تتعرض لها النساء دون غيرهن من فئات المجتمع، وفقط كونهن نساء، إنما تشي ليس فقط بتخلف تلك المجتمعات، وتسيُّد النظرة والمفاهيم الذكورية فيها، بل وتعني فعلياً تعطيل وإلغاء دور نصف هذا المجتمع وتحويله إلى عبء اجتماعي بدلا من أن يكون رافعة تنموية للنهوض بكامل قدرته على مواجهة التحديات المحلية والإقليمية التي تواجهها المجتمعات سيما في البلدان النامية والمجتمعات المُفقرة. بالإضافة إلى ذلك، فإنها في الواقع تظهر إلى حدٍ بعيد تخلي مؤسسات الدولة عن القيام بالحد الأدنى من مسؤولياتها المتمثلة بحماية حقوق المواطنين، وفي مقدمتها الحق في الحياة، ناهيكم عن مضمون مكونات المواطنة ومساواة جميع المواطنين أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات المدنية وتكافؤ الفرص في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومضمون النظام التعليمي الذي من المفترض أن يُنشئ الأجيال منذ الطفولة، ويربيها على مبدأ المساواة الكاملة بين المرأة والرجل. إن الإخلال بأي من عناصر الحكم الديمقراطي الرشيد، وفي مقدمتها استقلال القضاء والمساءلة البرلمانية والشعبية للسلطة التنفيذية ومحاسبتها، وإعمال مبدأ التداول السلمي للسلطة عبر دورية الانتخابات، يعزز السلطة الأبوية ومظاهر النزعة السلطوية التسلطية التي يدفع المجتمع بأكمله أثمانها غالياً، سيما في ظل تغييب سلطة الرأي العام القائمة على إطلاق الحريات العامة والخاصة، والمشاركة الشعبية في بلورة الخطط التنموية من أدني إلى أعلى، وبما يساهم في سد الثغرات التنموية للفئات المهمشة “النساء والشباب” في المناطق النائية والريفية والأحياء الفقيرة في عشوائيات أطراف المدن التي لا تحظى باهتمام المركز. وبالتأكيد فإن المرأة دوماً تكون هي الضحية الأسهل لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والثقافية في مثل هذه المجتمعات. لقد شهدت المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة انقلاباً شاملاً على حقوق النساء، ويكفي الاطلاع على مؤشرات حالة حقوق الإنسان في هذه الدول، سيما التي شهدت تفككاً وعدم استقرار أو تلك الشمولية، أو نظرة مدققة لحالة حقوق النساء وما يتعرضن له من اضطهاد وعنف، حتى نستطيع أن نقرأ مدى تدهور أوضاع المجتمعات العربية وانزلاق أنظمتها الحاكمة نحو الاستبداد والفوضى التي تتسع رقعتهما باضطراد. إن تكرار مشاهد القتل التي طغت على الرأي العام مؤخراً في مصر والأردن والعراق ولبنان، وهنا في فلسطين بما في ذلك “داخل الخط الأخضر”، إنما يظهر مدى التدهور وحالة الفوضى التي وصلت حد تغييب وتقويض الحد الأدنى من أسس المواطنة والعدالة، والتي تشي إما بتفكك مؤسسات الدولة وتخليها عن دورها الذي نشأت من أجله، أو طغيان الطابع البوليسي لمؤسسات الدولة واختزال وظيفتها لحماية الأنظمة المستبدة من قهر شعوبها، وليس حماية المواطنين وحقوقهم المتساوية أمام القانون وترسيخ أسس السلم الأهلي في هذه المجتمعات، وأحياناً كلا الأمرين معاً. خلاصة القول: إن ما تتعرض له النساء من جرائم قتل، وأعمال عنف أو تهميش على أساس النوع الاجتماعي. إنما هو أحد دلالات ما تعيشه المجتمعات العربية برمتها وليس فقط النساء، وتأتي ثقافة استضعاف النساء” ضلع قاصر” ليتم استباحتهن والاتكاء على أعذار العلاقات الاجتماعية الأبوية والعشائرية المشوهة والمتخلفة التي تسلب المرأة حقوقها، وتجعلها فريسة الغرائز العنفية للطابع الذكوري في هذه المجتمعات. لقد سبق وأن شهد المجتمع الفلسطيني حالة من نهوض مجتمعي خلال الانتفاضة الشعبية الكبرى، تمثل جوهرها في اتساع الطابع الديمقراطي للمشاركة الشعبية في تعزيز روح وأشكال التكافل والتضامن بين فئات المجتمع المختلفة، وتمكينه من القدرة على الصمود في مواجهة سياسات الاحتلال، في المعركة الطويلة والمعقدة لإنجاز الحرية والاستقلال. كان ذلك وفق الربط الدقيق بين الوطني والاجتماعي الديمقراطي، وفق مبدأ أن الحرية كاملة ولا تتجزأ. فمجتمع لا يقوم على أساس ضمان حرية جميع مواطنيه من الجنسين، لن يكون قادراً على إنجاز حريته من الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية على مجتمعنا ومقدراته وثرواته ومستقبله. رغم بعض التحسينات التشريعية الشكلية التي سعت لتعزيز حقوق النساء بعد إنشاء السلطة الوطنية، إلا أن فشل السلطة الوطنية ومعها فصائل الحركة الوطنية في الربط السليم بين استكمال مهام التحرر الوطني مع البناء الديمقراطي، بالإضافة لغياب فلسفة واضحة للحكم تربط بين أولويات الناس الاجتماعية والوطنية، واستعداد هذه السلطة للمساومة مع قوى وأطراف أصولية على الحقوق الاجتماعية والمدنية الحقوقية للنساء مع استراتيجيتها الأمنية التي تحولت لعقيدة “التنسيق لحماية أمن الاحتلال” حتى لو كلف ذلك التضحية بالأمن الاجتماعي وسلامة النساء؛ دفع واقع وحقوق المرأة الفلسطينية نحو تدهور غير مسبوق قياساً بالإنجازات التي سبق وفرضتها الحركة النسوية بطابعها الجماهيري التحرري، وفي هذا السياق لابد من الإشارة لمدى الحاجة لإجراء مراجعات جدية لبنية ودورالحركة النسوية، التي تعاني من ذات معضلات الحركة الوطنية ومظاهر فشلها ليس فقط في الدفاع عن الحقوق الوطنية لشعبنا بما يتناسب مع مخاطر محاولات تصفيتها، بل وعزلتها عن قضايا الفئات الاجتماعية العريضة خاصة النساء والشباب واللاجئين في المخيمات. إن ربط الحقوق الطبيعية للمرأة مع مقولة المرأة المناضلة، حتى في خطاب القوى التقدمية التي تتبنى نظرياً المساواة الكاملة، إنما تشي باشتراط نيل المرأة لحقوقها بمشاركتها في النضال الوطني، في وقت أن حقوق المرأة هي جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان ولا يجب أن تكون مشروطة بدورها الوطني في مقاومة الاحتلال. فحقوق المواطنين رجالاً ونساءً هي حقوق طبيعية، بينما النضال ضد الاحتلال هو واجب وطني على الجميع المشاركة فيه وفق طاقات الناس المتفاوتة ولكن ليس على أساس النوع الاجتماعي. مظاهر الفوضى المتسارعة وتخلي المؤسسة الرسمية حتى عن القليل الذي ضمنته التشريعات، وإحجامها عن تعديل القوانين الموروثة التي ما زالت تشكل عقبة أمام المساواة، بالإضافة للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية التنموية التي تحد من قدرة النساء على التمتع بحقوق متساوية، سيما تكافؤ الفرص، تطرح تحدياً على المعسكر التقدمي في المجتمع الفلسطيني برمته، فمعركة المواطنة والمساواة ومواجهة كل مظاهر العنف والجريمة التي تتعرض لها المرأة هي مسؤولية المجتمع بأكمله وليس المرأة وحدها. لقد شكلت مبادرة طالعات في مواجهة جرائم قتل النساء، سيما بعد جريمة قتل إسراء غريب في محافظة بيت لحم، صرخة ضد تكلس المنظومة الحاكمة من ناحية، وبهتان دورالحركة الوطنية بما فيها الحركة النسوية ومتطلبات تجديدها وتطوير وسائل كفاحها ومجمل بنيتها ودورها من ناحية أخرى. وقد حان وقت التشمير عن السواعد في مواجهة الفوضى والأصولية وما يولدانه من عنف مجتمعي تدفع النساء أثمانه الغالية. لقد بلغ السيل الزبى؛ فعندما تكون مهمة مجموعة سياسية من معسكر الإسلام السياسي” تتلخص أساساً وربما فقط في الاعتداء المنظم على حقوق النساء وحرياتهن التي كفلها القانون الأساسي، والمعاهدات الدولية التي التزمت بها السلطة الفلسطينية، بينما هي أي السلطة تتواطأ بالصمت على التحريض والتشويه من هذه المجموعات التضليلية، والتي تنخر نسيج المجتمع ومدى تماسكه وقدرته على الصمود، فهذا يعني قبل أي شئ آخر أننا لسنا بخير وأننا بحاجة لحراكات “طالعات وطالعين”، وتوسيع دورها الفعلي وعلى أكثر من صعيد لحماية أنفسنا ومجتمعنا وقضيتنا، والتي لن يحميها غيرنا. فهذا وطننا وليس لنا سواه. وهذا ما يوجب المشاركة مع حراك طالعات الذي أعلن الانضمام لدعوات نساء في العالم العربي “لإضراب نسائي عام يوم 6/7/2022” من أجل تضامن نسوي عابر للحدود، وأوطان حرة، عادلة، وآمنة.
مشاركة :