«بيوت الشعر».. القصيدة حين تصبح مشروعاًنهضوياً

  • 12/21/2015
  • 00:00
  • 24
  • 0
  • 0
news-picture

شكلت مبادرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة في إنشاء ألف بيت للشعر في العالم العربي، علامة فارقة في الحراك الثقافي العربي، إذ لم يشهد الحراك الثقافي عربياً خلال العقود الخمسة الأخيرة مبادرة تعنى بالشعر من هذا النوع، وظل الشعر عبر تاريخه القريب والبعيد قائماً بالجهود الفردية والجماعات التي غاب ذكرها منذ ثمانينات القرن الماضي. ولم يشهد الحراك الثقافي في المقابل مبادرة قائمة على تفعيل الحراك الثقافة العربية بهذا الحجم، ولم تتعدَ المبادرات الثقافية العربية الكبيرة مشاريع الترجمة التي ظهرت في سنوات الفورة الثقافية العربية، والتي غالباً ما شهدت تراجعاً ولم تحقق رؤاها نحو نهوض ثقافي عربي ممتد من الخليج إلى المحيط. تكشف هذه المبادرة سلسلة من الرؤى التي ينطلق منها صاحب السمو حاكم الشارقة، إذ لا يمكن النظر إلى العناية التي يوليها للشعر في هذا الزمن بمعزل عن مشروعه الثقافي القائم في الشارقة بوصفها عاصمة ثقافية عربية، فالمتابع يجد أن الحديث تزايد في السنوات العشر الأخيرة عن زمن الرواية وخفوت صوت الشعر، وغياب العناية بالشعر والشعراء، وتراجع حركة الإصدارات الشعرية والترجمات، والمهرجانات، فجاءت هذه المبادرة كإعادة تأسيس لساحة الشعر العربي وتشكيل منصات يمكن للشعراء أن يتجمعون فيها ويقدمون من خلالها تجاربهم في فضاء فاعل ونشط يمكن أن يوصل خطاب الشعر ويكرس حضوره في العالم العربي. ليس ذلك وحسب فأنْ تكون المبادرة شاملة لمئات بيوت الشعر المتوزعة على بلدان العالم العربي، فإن ذلك يبين مفهوم الثقافة الذي تنطلق منه الشارقة برؤى حاكمها، فالمبادرة عربية توسعية تبحث عن فضاءات رحبة لتعميم الفعل الثقافي الجمالي، ودعم الجهود المثقفة الفاعلة في البلدان العربية، ليصبح بيت الشعر في الشارقة بما يقدمه من نشاطات وما ينظمه من فعاليات نموذجاً لمختلف البلدان العربية، وتصبح المنصات الشعرية واضحة ويمكن الوصول إلى جمهورها بصورة مباشرة. لا يمكن قراءة هذا كله في سياق منفصل عن النتائج المترتبة على مثل هذه البيوت التي راحت تتشكل تباعاً بدءاً من بيت الشعر في موريتانيا، والأردن، ومصر، ووصولاً إلى القيروان في تونس، فالقارئ لتجربة بيت الشعر في الشارقة يمكنه تلمس الملامح التي تسير عليها بيوت الشعر العربية، إذ لا يشكل بيت الشعر في الشارقة مركزاً لتنظيم الفعاليات والأمسيات وغيرها بقدر ما يمثل مركزاً ومنصة لحركة الشعر الفاعلة في الإمارات. لهذا بات يمكن الحديث حول بيوت الشعر العربية بوصفها منصات ثقافية تجمع التجارب الشعرية الفاعلة في البلدان العربية، بحيث تصبح حركة التواصل والتكاتف قائمة بصورة أكثر فاعلية، وتتعدى الشكل الفردي القائم على العلاقات الشخصية إلى نوع من الخطاب الجماعي القائم بين بيوت الشعر العربية. أثبت هذا النوع من الفعل الثقافي العربي جدواه وضرورته عندما ظهرت اتحادات الكتّاب العربية، فالخطابات الرسمية والفعاليات المقامة في هذا الجانب باتت أكثر سهولة وأكثر فاعلية لما تشتمل عليه الاتحادات من بنى تحتية يمكن الارتكان عليها في تنظيم الفعاليات وإطلاق المبادرات، ولما تضمه تحتها من نماذج وأسماء مثقفة تعد مراكز الفعل الثقافي في العالم العربي. فمثلما أثبت الحراك الثقافي العربي أنه يحتاج إلى منصات ثقافية تمثله على صعيد الرؤى والمواقف والفعاليات والنشاطات والجوائز والتمثيل العالمية، ستكون بيوت الشعر واحدة من المنصات الشعرية التي يمكن تلمس حركة الشعر العربي من خلالها، فالبيوت لا تنكفئ على نفسها وتنغلق على الساحات المحلية، وإنما ستشكل منصات لنوع من النشاط العربي، والجهد الثقافي المتعدد والممتد. يعرف الباحث في حركة الشعر العربي أن واحدة من المعضلات التي كانت تواجهه هي غياب المرجعيات التي يمكن من خلالها الوقوف عند أسماء وتجارب الشعراء العرب بصورة عامة، فكانت الجهود الفاعلة في توثيق ورصد الحراك الشعري في بعض البلدان العربية تلجأ إلى الأسماء البارزة التي يمكن من خلالها الاستدلال على الأسماء الشعرية، أو عبر الاستناد إلى الإنطولوجيات السابقة، فكانت الكثير من التجارب المهمة يهضم حقها في القراءة والتوثيق ولا تلقى نصيبها من القراءة. هنا يمكن النظر إلى بيوت الشعر بوصفها مركزاً يمكن من خلاله الكشف عن خبايا التجارب الشعرية العربية والوصول إلى نماذج من الشعراء يقبعون في الأرياف، والبلدات التي لم تلقَ حقها من الظهور ثقافيا، والتي لم تكن يوماً حاضرة مثلما هي حال العواصم والمراكز الجغرافية. لذلك ستكون بيوت الشعر مكاناً للإعلان عن الأصوات الشعرية المغمورة والتي لم تلق حقها شعرياً، الأمر الذي يسهل البحث في تطور الحركة الشعرية العربية، وفي التوثيق للحراك الشعري في مختلف البلدان العربية، بحيث تصبح مؤلفات الإنطولوجيا أكثر شمولاً وأكثر دقة، وليست قائمة على الترشيحات الشخصية والاجتهادات والمصالح وغيرها. إضافة لهذه الفرصة التي تقدمها البيوت فإن الأهم من ذلك كله هو الدور الذي ستلعبه في الإعلان عن التجارب الشعرية الشابة، سواء في تقديمها إلى المنصات أو دعمها على صعيد الورش، والندوات، والاحتكاك في الأسماء الشعرية الكبيرة، فالكثير من التجارب الشعرية الجديدة الشابة ظلت تواجه أزمة الاحتكاك والظهور والإعلان عن نفسها، حيث لم تتوقف عقدة المراكز الثقافية في العواصم العربية، بحيث ظل كل من هو خارج العاصمة، بعيداً عن الإعلام، وعن الظهور. لهذا يجد المتتبع لتوزيع بيوت الشعر المفتتحة حتى اليوم في البلدان العربية أنها ابتعدت عن المركز الثقافي المتمثل في العاصمة، وراحت تنقل الجهور والأنظار إلى الأطراف والبلدات والمحافظات وغيرها، ففي الأردن افتتح بيت الشعر في شمال المملكة بعيداً عن العاصمة في محافظة المفرق، وكذلك الحال في مصر فلم يكن بيت الشعر في القاهرة وإنما جاء في الأقصر، والحال ذاتها في تونس. يكشف هذا الفعل عمق الرؤية التي ينطلق منها مشروع بيوت الشعر، فالعمل على تعميم الفعل الجمالي والثقافي نحو المراكز والبلدات الغائبة والبعيدة عن العواصم خطوة مهمة تعيد الاعتبار إلى الثقافة والشعر في إعادة إنتاج المجتمعات وفتح رؤاهم نحو الجمالي والإنساني في العالم، فالقارئ لحركات التغير الاجتماعي التي ظهرت في العالم العربي يجد أن غياب العناية في الأطراف أو المدن والبلدات البعيدة عن العواصم كان سبباً في إنتاج نماذج من التطرف الفكري والتراجع المعرفي. تدفع هذه المبادرة القائمين على الفعل الثقافي في العالم العربي إلى الالتفات نحو الجهود القائمة الفعالة البعيدة عن مراكز العواصم، فتتحول التجربة إلى نموذج نحو الانفتاح على ثقافة الأطراف واستقطاب جهودها، وتفعيل دورها على مختلف المستويات، خاصة ونحن اليوم نعيش أزمة التطرف التي شكلتها سنوات طويلة من التهميش وغياب الاستثمار في الأجيال الجديدة، ودعم مواهبها، وتحفيزها نحو الجمالي والفاعل في مجتمعاتها، فكم من الأجيال انحرفت عن مسارها لغياب البيوت الشعرية والثقافية الحاضنة لنشاطها. يمكن القول إن بيوت الشعر تعدت فكرة العناية بالشعر، وتجاوزت فكرة النهوض بالعمل الثقافي لتصبح نموذجاً تصحيحياً يدعو إلى إعادة الاعتبار للجمالي والإنساني في العالم العربي.

مشاركة :