يظل الحلم بمجلة ثقافية مصرية عابرة للحدود، حلماً عصياً على التحقق، فلا يزال الحالمون يتحدثون عن مجلتي الرسالة والثقافة باعتبارهما كانتا تمثلان قوة مصر الناعمة في العالم العربي، هذا الحلم يقف بنا أمام حقبتين في تاريخ المجلات المصرية، حقبة ما قبل ثورة 23 يوليو، وما بعدها، الحقبة الثانية تتعلق بنظرة الدولة لدور المجلة بعد عام 1970 حين أغلق نظام السادات المجلات التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومنها الفكر المعاصر وكان فؤاد زكريا رئيساً لتحريرها، والكاتب برئاسة تحرير أحمد عباس صالح، والمجلة وكان رئيس تحريرها يحيى حقي. كانت المجلات ما قبل ثورة يوليو/تموز مستقلة عن الدولة، ويعود فضل تأسيسها واستمرارها لشخص القائم على شؤونها، فأحمد حسن الزيات هو من ضمن لمجلة الرسالة الاستمرارية، كذلك الحال في مجلة الثقافة التي أسسها أحمد أمين، فقد جرت محاولة لإحياء هاتين المجلتين بعد ثورة يوليو/تموز، لكنها كانت محاولة بائسة، ويبدو أن من يتحدثون كثيراً عن المجلات الثقافية لا يدركون أن المجلات، شأنها شأن غيرها من الموجودات، عرضة للصعود ومن ثم الانهيار. كانت المجلات قبل ثورة يوليو مستقلة، ولذا رأينا مجلات مهمة مثل الكاتب المصري لطه حسين، والعصور لإسماعيل مظهر، قبل ذلك كانت هناك مجلة الأستاذ لعبدالله النديم، وأقدم هذه المجلات مجلة روضة المدارس التي تعتبر أول مجلة ثقافية في تاريخ مصر، وكانت تصدر عن ديوان عموم المدارس (وزارة التربية والتعليم حالياً) وقد تولى تحريرها رفاعة الطهطاوي، وصدر عددها الأول في 16 صفحة بتاريخ 17 إبريل/نيسان 1870، وكانت توزع على تلاميذ المدارس المصرية مجاناً، إلى أن توقفت عن الصدور عام 1877. هذه المجلات ذهبت ريحها وبقي بعضها للتاريخ، لكن مجلة الهلال وحدها هي التي حافظت على انتظام إصدارها، منذ أن أطلق جرجي زيدان عددها الأول في 32 صفحة، في أول سبتمبر/أيلول عام 1892 وكانت تحمل على صفحتها الأولى جملة تعريفية تقول: مجلة علمية تاريخية أدبية وبذلك تحتفل المجلة بمرور 123 عاماً على إصدارها. يؤكد سعد القرش - رئيس تحرير المجلة- تحجز مجلة الهلال منذ الآن، مساحة لدى القارئ في الاحتفال معاً، بعد عامين، باليوبيل الفضي بعد المئة، قائلة بفخر إن 125 عاماً من عمر الهلال المجلة الأقدم عربياً، ليس حدثاً عابراً في حياتها المديدة، ويجب ألا يمر مرور الكرام، سيكون السؤال عن أسباب استمرار مجلة أرادها مؤسسها جرجي زيدان (علمية تاريخية أدبية) كيف احتفظت بحيويتها، وجددت شبابها، وطورت لغتها؟. يقول محمود قاسم: إن قيمة الهلال ارتفعت بسبب الثقافة الجادة والسجال الأدبي الذي لم يتوقف يوماً لكن هذا لا ينفي أن المجلة تعرضت لعثرات عديدة، جعلت مستواها يراوح بين القوة والضعف، حتى إن كانت جزءاً من السؤال عن أسباب تراجع المجلات الثقافية في مصر، فالمسألة لها علاقة بمناخ معاد للثقافة حتى إن كانت جادة. أغلب المجلات التي صدرت بعد الثورة وبحثت عن استقلاليتها كان وجودها مرهوناً بتقديم جيل جديد، أغلقت في وجهه نوافذ المؤسسة الثقافية الرسمية، وكانت الطباعة متقشفة، لكنها أفرزت ما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة الماستر مثل هذه الطباعة الفقيرة صدر عن طريقها مجلات مستقلة مثل جاليري 68 وإضاءة 77 وشيئاً فشيئاً تطورت الرؤى فأصدر هشام قشطة مجلته الكتابة الأخرى التي أفرزت ما عرف بشعراء قصيدة النثر، وظلت تقاوم رياح الممانعة، حتى فرضت هؤلاء الشعراء على متن الحركة الشعرية المصرية. يوضح الناقد محمد عبد المطلب أنه بالرغم من أن المجلات الأدبية هي المنفذ الوحيد للكتابات الجادة والمستنيرة في مصر، إلا أن مصادر الثقافة المطبوعة المحترمة لم تعد تتعدى أصابع اليد الواحدة، باستثناء مجلتين هما: فصول التي صارت غير منتظمة فاتسعت المسافة الزمنية بين العدد والعدد التالي، ومجلة الثقافة الجديدة التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة، وهي تلعب الآن دوراً مهماً في تعويض العجز الثقافي لدينا، أما بقية المجلات التي تصدر عن وزارة الثقافة فتكاد تكون سرية، لا توزع سوى أعداد قليلة في مكتبات المدارس. يمكن أن نضيف إلى ما ذكره د. عبدالمطلب مجلتي عالم الكتاب وإبداع ونستطيع أن نتعرف إلى شهادة صبحي موسى رئيس تحرير الثقافة الجديدة - الذي يقول: حين توليت مسؤولية رئاسة تحرير المجلة، التي تصدر عن هيئة ثقافية ذات طبيعة جماهيرية، كان عليّ أن أفكر في رسالة الهيئة وأهدافها وطبيعة الجمهور الذي سأتوجه إليه، ومن اللحظة الأولى سعيت لأن تكون الرسالة المرسلة للقارئ واضحة وصريحة، وهي أن اسم المجلة هو الثقافة بمعناها الواسع، والجديدة بمعناها العام، فهي ليست مجلة أدبية فقط، ومن ثم قمنا بمناقشة عدد من القضايا، التي تشغل فكر ووعي الطبقة المثقفة، وكان من بينها المرجعيات الفكرية للجماعات الإسلامية، ومستقبل الثقافة في مصر، ومناهج التعليم بالأزهر، والحالة النفسية للمصريين بعد الثورة، وغيرها. يرى موسى أن الأزمة الحقيقية تكمن في أن هذه المجلات تولد نخبوية وشبه معزولة، وبالتالي تصبح مصر بلا مجلة قوية ومعروفة في العالم العربي، مجلة تستطيع منافسة المجلات العربية التي صارت تحتل السوق المصرية، ويصبح الأمر من وجهة نظر موسى أن المؤسسة المصرية لا تريد مجلات ثقافية حقيقية، لا تريد فعلاً ثقافياً حقيقياً. أما طارق إمام مدير تحرير إبداع - فيرى أن التحدي الحقيقي الذي تواجهه مطبوعة ثقافية جديدة، لم يعد قدرتها على الصمود أمام نظيراتها التاريخية التي صنعت مجد الدوريات الثقافية المصرية (الرسالة، المجلة، الكاتب، إلخ...) أو إفلاتها من فخاخ المقارنات الجاهزة، التحدي الآن هو في القدرة على الصمود أمام سيل مواقع إلكترونية، تحتل فيها الثقافة ركناً أساسياً، فيها الجيد والرديء، لكنها تبقى وعاء لحظياً، يستوعب نشر النص كما الخبر، لحظة تحققه، وينقله في اللحظة ذاتها لقارئه. هذا هو المأزق الحقيقي كما يوضح طارق إمام خصوصاً عندما نضع في الاعتبار أن النشر بمعناه التقليدي لم يعد يحتفظ بالرونق ذاته، عندما كانت المجلة الثقافية الورقية وسيلة وحيدة أمام الكاتب، ليرى الآخرون نصه، من هنا يجب على المجلة أن تحقق معادلة صعبة: قدرتها على منافسة جاذبية الموقع وسهولة انتشاره، وتأكيدها في الوقت ذاته أن الموقع لن يستطيع أبداً أن يحل محلها. يقول إمام: أتحدث عن إيقاع قارئ جديد لم يعد يبحث عن أحدث خبر ولا عن أفضل قصة، فما الذي بإمكاننا أن نفعله حيال ذلك؟، هذا السؤال بالتحديد كان شاغلنا الرئيسي، بينما نعد لإصدار جديد من مجلة إبداع وهي بدورها مجلة تاريخية، حظيت بماضٍ طويل، صعدت خلاله لعنان السماء تارة، ولامست رقبتها الأرض تارة أخرى، نعمل على تحرير حقيقي للمواد، هذه واحدة من آلياتنا، فنحن نعمل في صحافة ثقافية أي أن الجانب الصحفي لا ينفصل أبداً عن شخصيتها، وهذه الشخصية لن تتحقق إلا بتفعيل مهنة المحرر. كان الكاتب الراحل خالد السرجاني يرى أن نجاح المجلات الثقافية المصرية يرتبط بالمناخ السياسي والفكري في مصر، لأنها تعبر عن حراك ثقافي وجدال يعتمل في جسد المجتمع، وبحث عن إجابات لأسئلة كبرى، تتعلق بالهوية والدور، كذلك يرتبط نجاح المجلة الثقافية بإدراك المسؤولين عنها أن لها دوراً ورسالة، لا بد أن ينعكس على سياستها التحريرية، فأي مجلة ثقافية مصرية حققت نجاحاً، سواء داخل مصر أم على مستوى الوطن العربي كانت تقوم بدور أو رسالة إقليمية أو وطنية.
مشاركة :