واحد وستون عامًا من الديمقراطية: مكامن الخلل في التجربة الكويتية

  • 6/30/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أثار الإعلان عن حل مجلس الأمة الحالي (2020) ردود فعل واسعة، غلب على معظمها طابع الترحيب بهذه الخطوة التي يرى البعض بأنها جاءت مستحقة، نظرًا لتعطيل آليات عمل البرلمان سواء من قبل الحكومة أو عبر ممارسات بعض أعضاء المجلس، التي يرى البعض أنها معيقة لعمل الحكومة. وقد كانت ردود فعل النواب المعتصمين لافتة في اعتبار الإعلان انتصارًا للاعتصام، الذي كان يرتكز في الاحتجاج على تعطيل عمل المجلس من خلال التسويف في تشكيل الحكومة المستقيلة لأكثر من شهر. السؤال المطروح الآن: هل يعتبر حل مجلس الأمة الذي أُعلن مؤخرًا بداية لطريق شاق ووعر للإصلاحات التي طال انتظارها؟ ام عبارة عن رد فعل مؤقت للاعتصامات التي تمت داخل وخارج مجلس الأمة، وما تلبث أن ترجع الأمور إلى طبيعتها السابقة؟ لا شك أن الآمال معقودة على العهد الجديد بأن تكون هذه بداية للإصلاح المنشود، والذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد الوقوف بشكل موضوعي وعقلاني وصريح (حتى وإن آلم البعض ذلك) على مكامن الخلل الذي أوصل البلد إلى هذا الوضع، من التردي على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن تغلغل الفساد في معظم أجهزة الدولة، مما يؤدي إلى عدم توافر بيئة مناسبة للإصلاح، فلا يمكن أن نزرع شجرة في تربة نتنة وننتظر منها ثمارًا طيبة. ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال من الشلل السياسي الكامل، والذي انعكس وبشدة على كل مناحي حياتنا اليومية؟ فبعد أن كانت الكويت رائدة إقليميًا في شتى المجالات، لم نعد نقرأ الآن إلا عن الفشل في التعليم والرياضة والاقتصاد والصحة، والقائمة تطول في هذا الصدد. تحفيزًا للنقاش العام، يطرح «منشور» رؤيته عن مكامن الخلل، والتي نرى أنها أسهمت وبشكل كبير في وصول الكويت لأوضاعها الحالية، تمهيدًا لطرح حلول جذرية لهذه العلل، أخذا في الاعتبار عدم إمكانية وصف الدواء الناجع قبل التشخيص الصحيح والدقيق للداء. الصراع على السلطة الصورة: الحرة حصل هذا على مراحل تاريخية عديدة، مرورًا بالصراع بين طبقة التجار والمثقفين من جهة، والتي كانت منفتحة بطبيعة عملها، أو من خلال تحصيلها العلمي واطلاعها على تجارب الدول الأخرى الأكثر تقدمًا من السلطة في الكويت ممثلة في الأمير. من أبرز محطات هذا الصراع مجلس 1921 والمجلس التشريعي في 1938. وقد توجت هذه الجهود بالمجلس التأسيسي عام 1961، الذي اعتمد دستور الكويت الحالي. وقد كان جليًا من محاضر المجلس التأسيسي عدم رضا جناح مهم من الأسرة الحاكمة آنذاك ممثلًا في الشيخ سعد العبد الله الصباح عن الحريات التي تضمنها الدستور، ومن هنا كانت المعضلة الأهم والتي نعيش آثارها إلى اليوم. دأبت الحكومة منذ ذلك الوقت على ترسيخ سلطتها من خلال الالتفاف على الدستور، بل وتمادت إلى تزوير الانتخابات في عام 1967، وحل المجلس بشكل غير دستوري مرتين في عام 1976 و1986، وهو ما أثبت عدم إيمان الحكومة على مدى العقود الماضية بالدستور. وكان الأداء الحكومي المتواضع بل والسيئ وغياب الرقابة البرلمانية خلال فترات الحل الدستوري سببًا رئيسيًا في المطالبات بإعادة الحياة البرلمانية من خلال وثيقة لجنة الـ45 ودواوين الاثنين ، خاصة مع تفشي الفساد الذي بلغ أوجه في سرقات الاستثمارات والناقلات. تضاءلت حدة التنافس بين القوى الوطنية التقليدية ممثلة في التجار والفئة المثقفة مع السلطة، مع تمكن الدولة من المقدرات المالية الهائلة التي هبت عليها من النفط، إذ أصبح تحت يديها أموال وصلاحيات سياسية أوسع بكثير من السابق. ومع انتهاء تلك المنافسة التقليدية برز الصراع بين أفراد الأسرة الحاكمة، خاصة بين الشيخ جابر العلي من جهة والشيخ صباح السالم والشيخ جابر الأحمد، ومن ثم بين الشيخ سعد العبد الله والشيخ صباح الأحمد، ومؤخرًا بين الشيخ احمد الفهد والشيخ ناصر المحمد، وبين الشيخ جابر المبارك والشيخ ناصر صباح الأحمد. عطل هذا الصراع على السلطة الكثير من المشاريع التنموية لانشغال أطرافه بتصفية الحسابات، فأصبح البقاء على الكرسي (والفساد طبعًا) هو الهم الشاغل لكثير من رؤساء الوزراء السابقين. ولعل الحسنة الوحيدة التي تمخض عنها هذا الصراع كانت فضح البعض منهم لفساد الآخرين، كإحدى الأدوات المستخدمة في هذا الصراع المحموم. كيف خربت السلطة الديمقراطية؟ إزاء تحدي تلك المجاميع لصلاحيات الأسرة، اتخذت الحكومة مجموعة من الإجراءات في هذا الشأن، أهمها: فتح باب التجنيس السياسي في السبعينيات، والذي رأت فيه عاملًا مهمًا لخلق التوازن من خلال السيطرة على قيادات القبائل، وبالتالي ضمان سطوة الحكومة على قرارات المجلس. لم يعد هذا مستمرًا في وقتنا الحاضر مع تدهور مكانة أمراء القبائل، إذ سقط العديد منهم في الانتخابات، بل وانضم الكثير من أبناء القبائل إلى المعارضة. وإمعانًا في تقسيم المجتمع، اتبعت الحكومة آنذاك سياسة إسكانية قسمت المناطق إلى قبائل لكي تضمن مخرجاتها القبلية الموالية عبر تقسيمة الدوائر الانتخابية. وقد ألقت هذه السياسة بتداعياتها السلبية إلى يومنا هذا، إذ يهتم بعض النواب بأولويات تخالف المادة 108 من الدستور سنأتي على ذكرها. التحالف مع التيارات الإسلامية من الإخوان في الثمانينيات، والسلف لاحقًا لتحجيم التيارات الوطنية، مما أدى إلى انغلاق المجتمع الكويتي أكثر فأكثر، وتفاقم نفوذ التيارات الدينية المسيسة التي تحالفت بدورها مع بعض أبناء القبائل للاستفادة من الدعم القبلي، فأفرزت الانتخابات في ضوء تلك التقسيمات نوابًا اولوياتهم للقبيلة والتيار الديني الذي أوصلهم للبرلمان، وترتب عليه انغلاق المجتمع وتعنصره، واحتدام الصراعات بين نواب القبائل والنواب الآخرين. دعمت الحكومة من خلال الخدمات وغيرها مجموعة من النواب ممن اصطُلح على تسميتهم نواب الخدمات، في ظاهرة دخيلة على الديمقراطية، وذلك مقابل ضمان مساندتهم في التصويت ضد الاستجوابات الموجهة للحكومة. وانفتح بذلك باب الفساد الإداري والمالي على مصراعيه مع تبني الحكومات المتعاقبة ظاهرة نواب الخدمات، الذين يحصلون على استثناءات بمخالفات قانونية، وتعيينات في المناصب الإدارية، وعطايا وهبات وصلت إلى مكاسب مالية غير مشروعة. الطريف أن هؤلاء النواب لم يقفوا مع الحكومة في أي قوانين إصلاحية، مما اضطرها لسلوك أساليب ملتوية لتمرير بعض القوانين الإصلاحية مثل حق المرأة في التصويت. أدت هذه الممارسات إلى ترسيخ التراخي في المحاسبة، فلا يزال إبطال الحكم بسرقات الناقلات ساريًا، وقضية صندوق الجيش وعمولات اليوروفايتر بلا مصير واضح. تدني المستوى المهني لمجلس الوزراء  الصورة: كونا كان خطاب سمو ولي العهد الأخير جريئًا وذا طابع غير تقليدي من حيث انتقاده للسلطة التنفيذية، والتي لم يكن أداؤها أفضل من سابقاتها. ويعكس ذلك عدم رضا سموه عن أداء رئيس مجلس الوزراء، فإن تدني المستوى المهني لرؤساء الوزارات انعكس على اختياراتهم للوزراء، والذين اتسم بعضهم بمحدودية الأفق وتواضع القدرات.  حان الوقت لأن نسدل الستار على الأعراف السائدة في تشكيل الحكومة، ونحدد آلية واضحة لاختيار الوزراء مبنية على الكفاءة لا المحاصصة. فقد بات تشكيل الوزارة عملية مكلفة على المال العام، وتضطر الحكومة المبنية على المساومات إلى دفع مبالغ كبيرة فقط لأجل البقاء لفترة مؤقتة، كما حصل ويحصل حاليًا. ولنا في بيع الإجازات ومنحة المتقاعدين خير دليل، فلم تعد طرق الماضي قادرة على بناء المستقبل، وعلى من يتولى مسؤولية القيادة أن يعي حجم العمل المطلوب.  غياب الرؤية العامة  الصورة: Getty لا بد أن يكون التشكيل الحكومي القادم أول عتبة للإصلاح، إذ أن السلطة التنفيذية وحدها، وبحسب الدستور، هي المهيمنة على مصالح الدولة وتقودها مسنودة برقابة وتشريع من المجلس، فالحكومات المتعاقبة عجزت عن طرح تصور جديد إصلاحي وشامل للبلاد، ولذلك نعود إلى المربع الأول في كل مرة. على من يستلم رئاسة الوزراء تقديم رؤية واقعية دقيقة تتضمن حلولًا واقعية لقضايا الوطن والمواطنين، وتعيد بناء ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها.  لقد اتسمت برامج عمل الحكومة طوال السنين الفائتة بكونها إنشائية وتصاغ فقط بغرض تقديمها لمجلس الأمة لا أكثر، وذلك وفقًا للمادة 98 من الدستور. لم يعد للبلد برنامج إنمائي واضح المعالم، فضلًا عن أن الصراعات التي أتينا على ذكرها سالفًا شلت من قدراتهم المحدودة أصلًا. لم يعد الكلام الإنشائي أو «كتالوج» المشاريع الإسمنتية مقبولًا، بل نبحث عن رؤية اقتصادية اجتماعية واضحة المعالم، تشمل إعادة النظر في التعليم ومخرجاته وفق سوق العمل واحتياجاته، محورها رأس المال البشري حتى يشعر المواطن بأن مستقبله مؤمن. رؤية واقعية لبناء اقتصاد وطني متنوع ومستدام بعيدًا عن النفط، تشمل حلولًا جذرية لقضايا المواطنين من تعليم وصحة وإسكان.  اختلال النظام الانتخابي تنص المادة 108 من الدستور على أن «عضو المجلس يمثل الأمة بأسرها، ويرعى المصلحة العامة، ولا سلطان لأي هيئة عليه في عمله بالمجلس أو لجانه». ووفقًا لممارسات أعضاء مجلس الأمة الحاليين والسابقين، نجد أن الغالبية مخالفون لنص هذه المادة، إذ أن مخرجات النظام الانتخابي تتشكل وفق تدخل السلطة في التوزيع الجغرافي للسكان، وفي توزيع الدوائر وعدد الأصوات تقويض للأسس الديمقراطية. فمن غير المقبول أن تعبث السلطة بالنظام الانتخابي طوال الفترة الماضية، وكأن المخرجات الحالية هي ترجمة حقيقية للرغبة الشعبية.  فلا بديل عن طرح نظام الانتخابي جديد يقوم على تعزيز الوحدة الوطنية من خلال إعادة رسم الدوائر الانتخابية بعيداً عن التعصب المناطقي والفئوي والعائلي، واستبدال العمل الفردي المبني على المصلحة والمنفعة ب العمل السياسي المنظم، فلم يعد من المقبول تنظيم الصفوف تحت مسمى المعارضة لمجرد اختلافهم في الرأي مع الحكومة، أو معارضتهم لشخص ما. ومن غير المقبول أيضًا غياب التنسيق البرلماني بين الأعضاء، فنجد نائبًا واحدًا غير منتمي لأي جماعة أو فكر يخرج ويوظف الأدوات الدستورية في ابتزاز الحكومة لإضعافها وشلها.  إن تجربة واحد وستين عامًا من العمل بالدستور كفيلة باستخلاص الشواهد والعبر لما يمكن تحقيقه إن وُجدت رغبة حقيقية في التنمية، فهل نريد أن ندخل في سنوات جديدة من ذات اللعبة السمجة، ام نسلك مسلكًا آخر نحو التقدم والازدهار؟

مشاركة :