بعد مرور أربعة أشهر من الحرب الروسية في أوكرانيا، لا يزال الحل الدبلوماسي للصراع «بعيد المنال». ومع تطور الصراع إلى حرب استنزاف، وعدم وجود قوة عسكرية كافية لأي من الطرفين لإزاحة الآخر؛ اتخذت التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية للحرب بعدًا عالميًا، وخاصة في ظل تصدع المشهد الجيوسياسي الدولي. وفي ظل الأضرار التي لحقت بأوكرانيا، من حيث الخسائر البشرية، والمادية، بالإضافة إلى البنية التحتية الرئيسية والمنشآت العسكرية، التي تتعرض للقصف منذ بدء الحرب، أوضح «دانييل ديبتريس»، و«راجان مينون»، في صحيفة «الجارديان»، أن روسيا أضحت الآن «مستعدة لتدمير أجزاء كبيرة من البلدات من أجل الاستيلاء عليها أو تطويقها» .ووفقا لصحيفة «الجارديان»، فإن خسائر «كييف» الاقتصادية، قد تتجاوز 600 مليار دولار. وأشارت «الأمم المتحدة» إلى أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وحدها، بلغت100 مليار دولار. وقدر «أكيم شتاينر»، من «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، أن 9 من كل 10 أوكرانيين سيكونون في حالة فقر إذا لم تنته الحرب قبل عام 2023، مع توقع «البنك الدولي»، أن يشهد اقتصادها انكماشا بنسبة تصل إلى 45% هذا العام وحده. وحذر «شتاينر»، من أن «ما يصل إلى 18 عامًا مما حققته أوكرانيا من تنمية»، يمكن الآن «القضاء عليه في غضون 12 إلى 18 شهرًا». وعلى الرغم من تعهد «الاتحاد الأوروبي»، بحوالي 9 مليارات يورو لإعادة إعمار «أوكرانيا»، والتزام الولايات المتحدة بحزمة مساعدات بقيمة 40 مليار دولار؛ فإن إعادة البناء، بمجرد انتهاء الصراع، ستستغرق عقودا، وهي حقيقة أدت إلى تأكيد المراقبين على الحاجة إلى حزمة انتعاش اقتصادي، مماثلة لخطة «مارشال لما بعد الحرب العالمية الثانية». ووصف «مارك تيمنيكي»، من «المجلس الأطلسي»، هذه المقترحات، بأنها «طموحة»، ومن شأنها أن «تُرسل إشارة بأن الغرب مصمم على مقاومة العدوان ومواجهة نظام «بوتين». ومع ذلك، فإن هذا الوعد وحده لن يجلب السلام، أو يخفف من المخاوف الاقتصادية العالمية، كما أن أي ضغوط لحمل روسيا على الرضوخ لتسوية تفاوضية نهائية، ليست بالفكرة التي يجب الاعتماد عليها بموثوقية. وفي حين استشهد كل من «ديبتريس»، و«مينون»، بأن الرئيس الأوكراني، «زيلينسكي»، يعتقد أنه «مع الوقت الكافي، والأسلحة الثقيلة، والمساعدات الاقتصادية، والالتزام السياسي من الشركاء الغربيين»، يمكن لبلاده «قلب ميزان المعركة لصالحه ووقف المكاسب العسكرية الروسية الأخيرة»؛ فإنه لا يمكن تجاهل أنه في ظل معركة قد تستمر سنوات قد تكون الخسائر الأوكرانية «هائلة». وبالنسبة لروسيا، كانت الحرب «كارثة اقتصادية». وبعد العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها، اتجهت «موسكو»، شرقا نحو «الهند»، و«الصين»، لكن قابلية استمرار هذا التقارب على المدى الطويل، لا يمكن الدفاع عنه، بمجرد انتهاء توريد النفط بأسعار منخفضة. وكتب «ميتشل أورينشتاين»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، أن «بوتين»، «قلل بشكل كبير من التكاليف الاقتصادية لشن حربه في أوكرانيا»، وأن الحديث بشأن التكاليف «توارى خلف الشعور الزائف بالأمن، الذي توفره احتياطيات موسكو النقدية التي تبلغ مئات المليارات من الدولارات». ومن المرجح أن تفقد «روسيا» الآن مكانتها كاقتصاد رئيسي، بسبب «عدم اليقين»، بشأن الوضع المستقبلي للتجارة الخارجية والديون وأسعار الفائدة. وفي حين أن الخسائر الاقتصادية لروسيا، لا تماثل خسائر «أوكرانيا»، فقد توقعت «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، انخفاضًا بنسبة 10% في حجم اقتصادها بحلول نهاية عام 2022 وحده. وأوضح «تيم آش»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أن العقوبات ضدها «فاقت التوقعات»، حيث قطعت بعض الشركات الغربية علاقاتها التجارية معها. لكن الأهم من ذلك، هو أن اقتصادها لم ينهار بسبب العقوبات، كما يأمل الغرب. واستشهد «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، بأنه على الرغم من ارتفاع التضخم إلى 17%، وتوقع أن ينخفض الناتج الاقتصادي الوطني بنسبة تصل إلى 30% هذا العام؛ «فلا يوجد ما يضمن أن العقوبات ستؤثر بشكل كبير على موسكو». واستمرارًا، رأى المراقبون أن العقوبات لم تردع «بوتين»، ومن غير المرجح أن تفعل ذلك. وأشارت «فيكتوريا كيم»، و«كليفورد كراوس»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه في حين كانت «واشنطن»، وحلفاؤها يأملون أن تكون العقوبات ضد موسكو «مؤلمة اقتصاديًا»، لدرجة أن تجبرها على التخلي عن غزوها، فإن هذا الاحتمال «يبدو الآن بعيد المنال». وبالمثل، أوضح «باري ايتشنغرين»، في مجلة «فورين أفيرز»، أنه «على الرغم من كل الضرر الذي أحدثته العقوبات الغربية، لا يوجد ما يشير إلى أن بإمكانهم إقناع «بوتين»، بوقف الحرب، ولا حتى التأثير عليه «لتغيير مجرياتها». علاوة على ذلك، تمكنت «موسكو»، من تفادي أثر العقوبات ضد صناعة الطاقة لديها من خلال زيادة المبيعات إلى «الهند»، و«الصين». وأشار «كيم»، و«كراوس»، إلى أن «أسعار النفط مرتفعة جدا لدرجة أنها تجني أرباحا أكثر مما كانت عليه قبل الحرب»، مما أدى إلى ارتفاع قيمة عملتها التي كانت قد تراجعت في الأسابيع الأخيرة. وأوضحت شركة «ريستاد إنرجي»، أنه على الرغم من انخفاض مبيعاتها من النفط الخام إلى أوروبا بأكثر من 500 ألف برميل يوميًا من مارس، إلى مايو 2022؛ إلا أنه في مايو 2022 وحده ارتفعت صادرات النفط إلى الصين بنسبة 28%، حيث تستورد الأخيرة أكثر من 760 ألف برميل من النفط يوميا من روسيا. وعليه، رأت صحيفة «نيويورك تايمز»، أن سياسة الغرب المتمثلة في تطبيق العقوبات الاقتصادية «ارتدت» ضدهم. ومع ذلك، ينبغي الاعتراف بالمشاكل الاقتصادية المتزايدة للغرب. وأدت الارتفاعات الحادة في التضخم الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة والسلع والإمدادات الأخرى، إلى توقع المحللين أن تتجه الاقتصادات الغربية الرئيسية، نحو «ركود كبير». وضاعف بنك «جولدمان ساكس»، مؤخرًا توقعاته باحتمالية حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة من 15% إلى 30%. وتم ربط هذا الركود مباشرةً باستمرارية حرب أوكرانيا. وأشار «مارك زاندي»، من شركة «موديز أناليتكس»، إلى أنه «لتجنب هذا الركود»، يحتاج الاقتصاد العالمي إلى أن ينتهي العدوان الروسي سريعًا». وأثرت إجراءات موسكو الاقتصادية على الدول الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق باعتمادها على صادرات الغاز. وأشار «ستانلي ريد»، و«ميليسا إيدي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن خفض إمداداتها من الغاز إلى أوروبا بنسبة 60%، يؤكد عزمها على معاقبتهم، بسبب دعمهم لأوكرانيا». وحذر «مارتن وولبورغ»، من شركة «جينيرالي»، من أنه «إذا قامت روسيا بقطع إمدادات الغاز بالكامل عن أوروبا»، فإن «الركود سيكون حتميًا، مع تعرض ألمانيا «لضربات شديدة بشكل خاص». وربما يؤدي الانكماش الاقتصادي لدى الغرب إلى انخفاض وحدة الجهود المناهضة لروسيا. ومع محاولة إدارة «بايدن»، السيطرة على ارتفاع أسعار الوقود ومعدلات التضخم محليًا؛ وصف «جوش روجين»، في صحيفة «واشنطن بوست»، أي خطوة «لحظر أو تقييد صادرات النفط الأمريكية»، بأنها «خيانة» لأوروبا وسيكون لها «مكاسب مالية لا حصر لها» بالنسبة لـ«بوتين». ورأى «ديبتريس»، و«مينون»، أنه «كلما استمرت الحرب، زادت احتمالات أن يفقد الغرب وحدته المناهضة لموسكو»، خاصة مع «عدم التزام» فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، بمواجهة موسكو عسكريا». ومن المهم أيضًا الإشارة إلى كيفية امتداد تداعيات الغزو إلى ما هو أبعد من أوروبا والغرب. واستشهدت «كيتلين ويلش»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، بتأثير الحرب على كافة أسواق السلع الزراعية»، بما في ذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والحبوب؛ في الكثير من دول العالم بسبب توقف الموانئ الأوكرانية عن العمل. وفي هذا الصدد، حذرت «ويلش»، من أن «تأثيرات أزمة الأمن الغذائي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا «من المرجح أن تستمر حتى عام 2023 على الأقل». ووصلت أسعار الغذاء العالمية إلى أعلى مستوى لها منذ 50 عامًا، وفقًا للحكومة البريطانية. وتتوقع «الأمم المتحدة»، أن يواجه 47 مليون شخص «جوعًا حادًا»، نتيجة أزمة الغذاء العالمية، بالإضافة إلى أن أكثر من 275 مليونا حول العالم، يواجهون بالفعل «نقصا شديدا» في الغذاء منذ بداية عام 2022. ومن الناحية العملية، عندما تقترن التداعيات الاقتصادية للحرب، مع الجفاف والقحط الشديد ستكون التداعيات كارثية، مع تحذير «لجنة الإنقاذ الدولية»، من أن 18.4 مليون شخص، نصفهم من الأطفال، في شرق إفريقيا وحدها «على وشك المجاعة». ولمعالجة انعدام الأمن الغذائي، اتخذت الدول والمؤسسات الغربية بالفعل إجراءات. وتبنت «المفوضية الأوروبية»، اقتراحًا لتعبئة 600 مليون يورو من احتياطيات صندوق التنمية الأوروبي لمعالجة أزمة الأمن الغذائي. وكشفت بريطانيا عن حزمة من 372 مليون جنيه إسترليني إضافية لمواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في البلدان الفقيرة الواقعة على خط المواجهة مع هذه الأزمة، بما في ذلك 130 مليون جنيه إسترليني لبرنامج الغذاء العالمي في إفريقيا وآسيا والأمريكتين. ومع ذلك، فإن الاستدامة طويلة الأجل والإرادة السياسية لدعم هذه الجهود -خاصة إذا استمرت الأزمة لأشهر أو سنوات مقبلة- تبقى محل شك، وبالتالي، لا يمكن الاعتماد على تلك التمويلات، من بلدان لا تزال تواجه ضغوطًا اقتصادية مع إثارة الحرب الأوكرانية، مخاوف بشأن استقرار الإمدادات الغذائية بالفعل. ونتيجة لهذه الأزمات، فإن السؤال المهم الآن، هو ما الذي يمكن فعله لتعزيز المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، لإنهاء هذه الحرب في أقرب وقت ممكن. وبدا واضحًا، أنه تم استبعاد أي احتمال لإزاحة «بوتين»، من السلطة من قبل المحللين. وأشار «ترويانوفسكي»، إلى أن «رجال الأعمال الروس لم يعارضوا تلك الحرب»، وأن الكثيرين اختاروا «الامتناع عن انتقاد الكرملين». في المقابل، أصر الرئيس الفرنسي، «ماكرون»، على أن محادثات السلام ستكون «ضرورية»، لإنهاء الحرب، لكن هذه السياسة، تظل «محل خلاف»، داخل التحالف عبر الأطلسي، في ضوء جرائم الحرب والانتهاكات الروسية داخل أوكرانيا، فضلاً عن السجل الضعيف لنظام بوتين، إزاء احترام اتفاقيات السلام والمواثيق الدولية. وبدلاً من تراجع التوترات، ثارت قضايا جديدة تُعقد أي تسوية محتملة. وضاعفت شخصيات رئيسية من الغرب وروسيا مواقفهما العدائية. وأكد «ديبتريس»، و«مينون»، أن الحرب دخلت «مرحلة جديدة أكثر صعوبة». وفي نهاية يونيو 2022، وافقت «واشنطن»، على حزمة أخرى بقيمة 450 مليون دولار من المساعدات العسكرية لكييف. وأشار «جوش اسماي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن التعزيزات الأخيرة «ترفع القيمة الإجمالية للمساعدات العسكرية من الولايات المتحدة إلى 6.8 مليار دولار». ومع ذلك، حذر وزير الدفاع الأمريكي، «لويد أوستن»، من أنه بالنسبة للأوكرانيين، لن يكون هذا المستوى من الدعم «أبدًا» كافيًا». وعلى الجانب الآخر، هناك التزام حازم باستمرار الصراع من قبل الروس. وأصر «دميتري ترينين»، من «مركز كارنيجي للسلام الدولي»، على أن «الانتصار الاستراتيجي في الحرب»، هو الآن «أهم غاية» لموسكو، وأن كلاً من روسيا والغرب «قد تجاوزا خط المواجهة التي كان الحوار ممكنًا فيها»، إلى «حرب لا يمكن أن يكون فيها حوار في الوقت الراهن». على العموم، ترتفع درجة عدم اليقين فيما يتعلق بوقت انتهاء العملية العسكرية، التي قام بها «بوتين»، أواخر فبراير الماضي، كما أن احتمالات إحلال السلام، غير متوقعة في الوقت الحالي. ومن الواضح أن التصعيد المستمر من قبل الغرب، من حيث زيادة مساعداته العسكرية لأوكرانيا، في مقابل، زيادة حدة الأعمال العدوانية واللهجة الخطابية من قبل روسيا، يشكلان «عوائق رئيسية»، أمام جهود السلام. ومع ذلك، لا ينبغي أن تكون تلك العقبات ذريعة للتنازل والاستسلام لويلات الحرب، خاصة وأن العواقب الاقتصادية والسياسية لاستمرارها أصبحت أكثر وضوحا وطالت الكثير من دول العالم، بشكل مباشر وغير مباشر.
مشاركة :