أتاح ازدهار سوق البودكاست والكتب المسموعة تحرر الصوت من إطار الصورة، والاستقلال عن السينما التي كان دائما يُعتبر فيها من الدرجة الثانية، وتشكّل المسلسلات الصوتية في نظر البعض خطرا على الفن السابع في حين يرى فيها آخرون فرصة له. في وسط غرفة مظلمة مستطيلة الشكل وعازلة كليا للصوت، جلس شخصان وجها لوجه أمام ميكروفون، وقاطعهما رجل ثالث على كرسي بذراعين قائلا “سنعيد التسجيل مجددا، ولكن بطريقة تبدو مقروءة أقل هذه المرة. و… أكشن”. هكذا تجري الأمور في جلسة تسجيل الرواية الصوتية “باتمان أنبوريد” (Batman Unburied). ووفرت منصة “سبوتيفاي” هذا الإنتاج الضخم في الربيع في تسع دول، وتجرأ المسلسل الصوتي على تحويل المناخات ذات الطابع السينمائي جدا لمغامرات البطل الخارق إلى عمل صوتي من دون صورة. ومنصة “سبوتيفاي” شركة تجارية تقدم خدمة بث الموسيقى والبودكاست، وهي تشبه منصات البث التدفقي على غرار نتفليكس وغيرها. وليست المسلسلات الصوتية جديدة، إذ سبق أن حققت أعمال منها “كولز” من “كانال” و”لامبالواييه” من “سبوتيفاي” و”مون برانس آ لا مير” من “أرتيه” نجاحا واسعا، لكنّ إنتاجها تسارع في الأشهر الأخيرة وأصبح أكثر احترافية، وتنوع ليطال كل فئات الجمهور، إذ شمل مثلا حكايات للأطفال وأعمال تشويق أو أخرى كوميدية، وسوى ذلك. وتحقق المسلسلات الصوتية حضورا متعاظما خصوصا في ظل رواج المدونات الصوتية (بودكاست) في مختلف أنحاء العالم، وقد باتت تثير اهتماما بها لدى منتجي هوليوود الذين يتلمسون آفاقا واعدة لأفلام ومسلسلات جديدة بهذا النسق. وإلى جانب جذب الكتّاب والممثلين، يثير هذا المجال اهتماما متعاظما لدى هوليوود المتعطشة للمضامين الجديدة، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه “هومكامينغ” وهو مسلسل صوتي من إنتاج “غيملت” وتوزيع “أمازون”، مع جوليا روبرتس في دور البطولة. وكانت رئيسة “أوديبل فرانس” المملوكة لمجموعة “أمازون” العملاقة آينارا إيباس لاحظت في تصريح لها لدى إطلاق العمل الصوتي الجديد “ستيكس” في فبراير الماضي أن “الزيادة الكبيرة للإقبال على الاستماع إلى المحتويات الصوتية كانت بدأت أصلا إلى حد كبير لكنها تسارعت بفعل تدابير الحجر” خلال الجائحة. وأضافت “أعتقد أننا احتجنا أكثر من أي وقت مضى ومازلنا نحتاج إلى هذه الفقاعات، إلى هذه المساحة الحميمة التي تتيح لنا الهروب” من الواقع. ولكن هل تشكل هذه المسلسلات الصوتية خطرا على الفن السابع في وقت لم تستعد دور السينما حجم الإقبال الجماهيري الذي كانت تسجله قبل كوفيد – 19؟ ورأت المنتجة ليا مارشيتي في تصريح لها أن الإنتاجات الصوتية “تتكامل” مع الفن السابع وأن “الاستماع إلى مسلسل صوتي لا يحول دون الذهاب إلى السينما”. وشاركت مارشيتي التي انغمست في هذا العالم منذ سنوات في إخراج مسلسل “بون نوي ما دوس” الذي بات متوافراً اعتبارا من الثالث والعشرين من يونيو، مع شارل دو سيّا. وبالمنطق نفسه تحدث النجم الصاعد للسينما الفرنسية دالي بن صالح الذي أدى بصوته شخصية “الرجل الوطواط” وشارك أيضا في “ستيكس”، إذ رأى في تصريح له أن المسلسلات الصوتية “منصة جديدة وطريقة جديدة للترفيه عن الناس ورواية القصص الجميلة”. تحرر الصوت من إطار الصورة ◙ تحرر الصوت من إطار الصورة وقال أحد أبرز مهندسي الصوت في فرنسا دانيال ديزيه إن “الصوت كان دائما يُعتبر عنصرا مكمّلا ضروريا للصورة” منذ ظهور السينما. أما اليوم فأحدثت المسلسلات الصوتية ثورة صغيرة، إذ بات الصوت يُستهلك وحده. ولاحظ ديزيه أن “الصوت يعيد الجميع إلى ذاكرتهم الشخصية، وهو ما لا تفعله الصورة”. وأضاف “إنه لحظة مع النفس في مواجهة الحمل الصوتي الزائد في العالم”. وأشارت إيباس إلى أن الأجهزة المتصلة بالإنترنت والتي يسهل استخدامها كالهاتف والجهاز اللوحي تتيح تلبية الاحتياجات وخصوصا “للأشخاص الذين ابتعدوا عن المطالعة الورقية أو الرقمية. ومعظمهم من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 35 عاما. إذ يساعدهم الصوت على معاودة الاطلاع على هذا النوع من المحتوى”. أما مؤرخ السينما والأستاذ في جامعة ليون 2 مارتان بارنييه فرأى أن لا شيء يحل محل تجربة السينما. وقال إن “مشاهدة ‘باتمان‘ على شاشة عملاقة مع صوت يجعل الصالة تهتز هي تجربة لا مثيل لها. حتى لو كانت لدى الشخص سماعة رأس ممتازة في المنزل، فلن توفر له أبدا ما توفره السينما. هذه الأحاسيس لا تضاهى”.
مشاركة :