بقامته المديدة دخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومد يده إليّ مصافحاً. حييته بالإنكليزية وهو ينظر الي بنظرة ثابته ورد علي بالعربية (اهلا وسهلا). كان ذلك قبل عام تماماً، كنت يومها ازوره ضمن وفد رسمي عراقي في انقرة وكنا في واحدة من قاعات قصره الرئاسي الجديد (أق سراي- او القصر الأبيض) الذي اثارت كلفة بنائه العالية بعض الجدل. (قالت جريدة ديلي تلغراف البريطانية بعد افتتاحه العام الماضي ان القصر يحتوي على ألف غرفة وقد كلف بناؤه أكثر من نصف مليار دولار). يومها كانت العلاقات بين العراق وتركيا تمر بمرحلة تعافٍ بعد ازمة كبيرة تحت حكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. منذ ذلك الحين لم يؤد ذلك التعافي الى مرحلة جديدة في العلاقة بين البلدين. فقد بقي تقييمهما للخطر الاكبر على امنهما القومي مختلفاً. فبالنسبة إلى الأتراك هو حزب «العمال الكردستاني التركي» وامتداداته في سورية وقواعده في العراق وبالنسبة إلى العراق هو تنظيم «داعش». لم تنتج الاتصالات بين البلدين ولا الاعتبارات الدولية والأقليمية أي تغيير في ذلك. في تلك الليلة جلس الزعيم التركي يتحدث مطولاً عمّا سماه إرهاب حزب العمال الكردستاني ووضعه في موقع لا يقل ابداً عن خطر تنظيم «داعش» وحاول كسب العراق الى وجهة النظر هذه، متعهداً مع اركان حكومته بدعم العراق تسليحاً وتدريباً وإسناداً بمواجهة داعش. لكن حتى في تلك الاجواء الودية كان واضحاً لي بأن الانقسام الطائفي والقومي في العراق والبعد الإقليمي لهذه المسألة والدور التركي الإقليمي يمكن ان تسمم اجواء العلاقات بين البلدين في اي لحظة. في الحقيقة هذا ما حصل عندما اثيرت قضية ارسال تركيا قوات عسكرية الى معسكر للمقاتلين تابع لحليفها اثيل النجيفي، محافظ نينوى السابق، في بلدة بعشيقة قرب الموصل. بعيداً من الخلاف بين حقيقة علم الحكومة العراقية من عدمه فإن القضية ترتبط مباشرة بالمحور الكردي - السني الذي تدعمه تركيا داخل العراق. فمنطقة المعسكر تقع فعلياً تحت نفوذ حكومة اقليم كردستان وإن كانت نظرياً خارجة عن حدوده. في العموم كانت العلاقات بين العراق وتركيا جيدة في معظم مراحل التاريخ الحديث للبلدين. السبب الرئيس كان وجود كتلة جيو سياسية غير مرئية بين البلدين هي الكرد تشكل خطراً على بغداد وأنقرة معاً. حتى ان العراق سمح في اتفاق نادر في ثمانينات القرن الماضي للقوات التركية بالدخول الى اراضيه في الشمال (اقليم كردستان) لملاحقة عناصر حزب العمال بعد بدء تمردهم المسلح عام 1984. اليوم ومن تناقضات الأقدار فإن صعود اقليم كردستان العراق اتى بدعم واسع من تركيا التي غيّرت استراتيجيتها مع هذا الملف وبنت علاقات اقتصادية واسعة مع اقليم كردستان ورئيسه مسعود بارزاني توجت في ذروة الأزمة الأخيرة باستقبال اردوغان الزعيم الكردي العراقي في أنقرة وبوضع علم اقليم كردستان خلف بارزاني، إضافة إلى علم العراق، اثناء لقائه مع رئيس الوزراء احمد داوود اوغلو في بادرة نادرة جداً من البلد الذي طالما تحسس من الهوية الكردية وتحولها الى شكل سياسي قد يلهم أكراد تركيا. ورغم الخلاف المائي المزمن بين تركيا من جهة والعراق وسوريا من جهة اخرى حول مياه نهري دجلة والفرات وسيادة تحليلات وتوقعات طالما اشارت على مدى عقود من التاريخ الحديث الى ان الحرب المقبلة في الشرق الأوسط ستكون حرب مياه الى ان ماحصل في النهاية امر مخالف. فقد صعد حزب العدالة والتنمية للحكم مع بدء الألفية الجيدة ليعيد توجيه اهتمام تركيا نحو الشرق. وإذا كان احد منتقدي مؤسس تركيا الحديثة كمال اتاتورك قد قال يوماً ان اتاتورك حوّل بسياساته التحديثية (التغريبية) تركيا من أقوى بلد في الشرق الى اضعف بلد في الغرب فإن اردوغان وحزبه عاد بطموح قوي لعكس تلك المعادلة. طرحت تركيا أردوغان وزعيمها ذاتها كنموذج للإسلام المعتدل والنجاح الاقتصادي واتخذت موقفاً قوياً من إسرائيل الى ان جاءت متغيرات الأزمتين السورية والعراقية، والطابع الطائفي الحاد الذي سارتا فيه أدت الى ان يكون اردوغان رمزاً سنياً في المنطقة وأن ينظر بعض السنة الى تركيا كسند لهم في موازاة النفوذ والحضور الإيراني الطاغي على الجانب الشيعي. لكن هذا ادى الى تحول سياسة صفر مشاكل التي اسس لها رئيس الوزراء داود اوغلو الى سياسة مشاكل كثيرة مع كثيرين في المنطقة خصوصاً انه في سياق العلاقة مع مصر اتخذ جانب تأييد جماعة (الإخوان المسلمين) فدخل في قطيعة وعداء مع النظام الذي خلف حكمهم. اما ازمة تركيا الأخيرة مع روسيا التي تفجرت مع اسقاط طائرة روسية اخترقت المجال الجوي التركي لثوان قليلة فقد دفعت بالعلاقات بين الأطراف الى تعقيدات اكبر. فهناك من شكك في أن العراق انما أثار الجدل حول وجود تركي يعلم به بسبب تحريض إيراني - روسي. المهم ان تركيا وعلى رغم موقفها الصعب في اطار الأزمة مع روسيا ومع قوى اقليمية الا انها تقوم باتباع خطوط استراتيجية واضحة، اما العراق فقد تذبذب موقفه وتشعب بسبب التشتت المعروف لمراكز القوة فيه. التيار المدعوم من ايران والذي يمثله رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وفصائل الحشد الشعبي المسلحة نزل إلى الشارع مهدداً تركيا ومتوعداً برد لا تبدو وسائله متاحة في الواقع لأسباب جغرافية اساساً اذ ان المنطقة التي تتواجد فيها القوات التركية بعيدة من مواقع تلك الفصائل في الوسط والجنوب. اما العرب السنة عموماً فقد انتقدوا موقف الحكومة العراقية المتشدد مع تركيا ولكن المتساهل مع ايران. اما في الصف الكردي العراقي فإن الأطراف الكردية القريبة لإيران اعربت عن رفضها التدخل التركي في موقف متمايز عن رئيس الإقليم. في النهاية ومهما امتدت الأزمة فإن آفاق حلها ستأتي من خط العلاقات الأميركية - التركية، لكن دخول تركيا بهذه الطريقة واقترابها من الموصل التي يحتلها (داعش) يقدمان مؤشراً إلى قرار أنقرة بأن تقترب اكثر من الموصل مباشرة وليس من طريق حلفائها استعداداً للمرحلة المقبلة. اما سيادة العراق التي احتجّت الحكومة العراقية على انتهاكها فسوف تبقى منتهكة من اطراف عديدة الا اذا توحّد صفه الوطني خلف قضية الدفاع عنها.
مشاركة :