تنسج الأديبة سهير المصادفة، من خيوط الواقع المتناثرة حولها، أعمالا إبداعية زاهية، ونجحت عبر مسيرتها الطويلة في امتلاك مشروعها الفكري، الذي يناسب كود القارئ العادي والمثقف، فكتابتها التي ترتكز في جوهرها على الحلم بواقع أفضل، لا يملك قارئها إلا أن يحلّق في أفقها. فهي كما قال عنها نقاد كُثر: «صنعت ألفة مع القارئ». ومنذ روايتها الأولى «لهو الأبالسة»، مروراً بـ«ميس إيجيبت»، و«بياض ساخن»، و«يوم الثبات الانفعالي»، وحتى «الحديقة المحرّمة»، وهي مهمومة طوال الوقت بنشر الحب، وإزالة القهر الواقع على المجتمع، عبر لغة سردية منضبطة. وفي حوارها مع «الجريدة»، تسلط المصادفة الضوء على مشروعها ومسيرتها، وأحدث إصداراتها، وطقوس كتابتها، التي تقول عنها: «أسير مثل بطل الرواية في أرض كالحلم». • ماذا عن المؤثرات التي ساهمت في توجيهك، وتكوين تصور خاص بك عن الكون والإنسان والحب والوطن؟ - يا ليتني أصل إلى الصورة التي أرى عليها نفسي قبل أن أموت! ليتني أستطيع نزع أية نطفة سوداء من قلبي جرَّاء إيذاءات الحياة الكبرى! وليتني أستطيع إلقاء كل شيء زائد ممَّا أمتلكه ليخفَّ وزني! كان لي أب صوفي أثّر في تكويني كثيراً، ولكن أحياناً كانت شراسة الأحداث اليومية تجذبني وتورّطني لأفعل ما لا أحب، وبشكل عام لا أجد سببًا يمنعني من تقديم ما أقدر عليه لكل الناس، أنا أيضاً أخجل وأخاف من الزحام والتزاحم، وأعلن انسحابي من أي معركة وأنا سعيدة بانهزامي؛ في الواقع لا أحب الانتصار كثيرًا، ربما لأنّ الهزيمة توفّر لي وقتًا للانزواء والكتابة والاستماع إلى الموسيقى والقراءة والمشي في الأزقة مع الناس الطيبين ورؤية البحار والأنهار، وربما لأنّ كل معاركنا الثقافية المنتصر فيها مهزوم، أكره التنافس على أي شيء في الحياة، وليتني أستطيع الاختفاء ولا تظهر إلّا مؤلفاتي فقط، ولكن هذا شبه مستحيل في العالم العربي. • في روايتكم الجديدة «الحديقة المحرمة»، تناولت أحداثًا لها علاقة مباشرة بالواقع، وبالتحولات الاجتماعية، حدثينا عن رؤيتكم لها. - في حياتنا الكثير من الحدائق المحرّمة، منذ هبط آدم من الجنة بعد أن أكل من شجرة محرَّمة، ونحن نحاول تجاوز الفخاخ، في روايتي الأخيرة «الحديقة المحرَّمة» يقع البطل الشاب في عالم موازٍ؛ يتبادل فيه الحلال والحرام الأماكن، فلا يعرف ماذا يفعل، وكيف يفهم هذا العالم المعقّد، بثوابته التي كان نشأ عليها، والاختلافات الكبرى التي يواجهها. وهكذا تكاد الرواية تقترب من الحلم، وجزء كبير من عالمها خيالي، لكنه هذا الخيال الذي نفتح أعيننا بعد رؤيته قائلين: ولِمَ لا»؟! وبطل العمل يجد نفسه في الصحراء معزولا، ومطرودا من قريته، تلك القرية غير المسماة، كأنها أي قرية في جنوب مصر تحديدا، يطرد لحدود الصحراء يتيه فيها وهو في عُمر السادسة عشر، نتيجة لذلك يتوحّش مع الكائنات التي يراها، حتى يسقط في نفق، فيجد نفسه في عالَم آخر، يظن معه أنه مات، وأن هذه هى الجنة، وتتوالى الأحداث، ويجد نفسه في الحديقة المحرّمة، التي تمثّل العذابات لكل حدائقنا المحرمة». حضور الرواية • ما سرّ الحضور الكبير للرواية في مسيرتك، خاصة بعد روايتك الأولى «لهو الأبالسة»، وهل طغى على الأجناس الأدبية الأخرى لديك؟ - بعد «لهو الأبالسة» لا أدري أنا نفسي ما الذي حدث لي، أصبحت لا أجد حتى طاقة كافية لكتابة مقال؛ صبري ينفد بسرعة لأعود إلى شخوصي الجدد والأحداث التي تتصاعد أثناء غيابي عن الكتابة ولو لساعات، صرت مجذوبة بالفعل، وكأنني مسحورة في أرض عجيبة، وإذا ما تكاسلت أو توقفت متعمدة وأنا أسأل نفسي: «ولماذا كل هذا العناء على كل حال»؟! أجدني ـ حرفياً ـ متورطة مع رواية جديدة، وأنا لم أضع نقطة النهاية بعدُ للرواية التي أريد التمرد عليها. الثبات الانفعالي • لكن في رواية «يوم الثبات الانفعالي» كنت أكثر جرأة في معالجتك لقضايا الهامش. - في «يوم الثبات الانفعالي»، أرّقتني فكرة مفارقة الأمكنة للحياة، ليس مفارقة الإنسان لها، ولكن غياب الأمكنة نفسها، كانت الأمكنة في الماضي تزول وتبتلعها الأرض بفعل الطبيعة؛ الزلازل أو الفيضانات، ثم زالت ممالك بالحروب، ثم وصلنا إلى إزالة أمكنة الآن لا يناسب وجودها بذخ التكنولوجيا والحداثة، «يوم الثبات» مرثية للذكريات، وروائح وأصوات الأمكنة والممالك القديمة التي تم محوها من على وجه الأرض. اختلاف • هل اختلفت الكتابة الروائية فى بداياتك عنها الآن؟ - أظن ذلك، أظن أن روايتي الأخيرة «الحديقة المحرَّمة» مختلفة تماماً عن الأولى «لهو الأبالسة»، كبرنا ـ كما يُقال ـ في السنِّ وزادت تجاربي، أصبح الشعر أقل في متن السرد، وأصبح القمر مرئيا بصخوره المتجهمة، ويتجول عليه رواد الفضاء، صارت الأسئلة الوجودية الكبرى أكثر رهافة كلما اقتربت رحلتي في الحياة من نهايتها، صرت أكثر تسامحاً؛ شخوصي خصوصاً المتورطين في رزايا اليومي، بالتأكيد أنا نفسي اختلفت فاختلف مداد قلمي، وإنما أظن أن الروح ثابتة وواحدة. • تحولت بعض كتابتك إلى دراما تلفزيونية، كيف تنظرين إلى علاقة النص الأدبي بالسينما والتليفزيون؟ - بالتأكيد السينما مهمة جدًّا للكاتب؛ لانتشار عمله ووصول رسالته الأدبية، ولكن يظل العمل الأدبي مختلفا عن العمل السينمائي الذي يظل ملكا لمخرجه وفريق عمله، كنت أحلم بأن تكون لدينا سينما كما كانت في ستينيات القرن العشرين، تعتمد اعتماداً كاملًا على النص الأدبي، مثلما هي الحال في الغرب مثلاً، لكن مع الأسف السينما تعاني منذ فترة طويلة. • ما رأيك في احتلال الكتاب الرقمي صدارة المشهد الثقافي؟ - سيحتل الكتاب الرقمي الصدارة في المستقبل القريب، منذ أيام حدثتني أستاذة الأدب العربي، وسألتني أين تجد روايتي «لعنة مِيت رهينة»، فإحدى طالباتها للدراسات العليا ستحضّر عنها رسالة ماجستير، وعندما حصلت الطالبة على نسختها من المكتبة وكانت الأخيرة، سألتُ الدكتورة: هل وجدتِ نسخة ورقية أيضاً حيث نفدت طبعة الرواية؟ فقالت لي: لا. هي عندي إلكترونية، فأنا لا أقرأ ورقيًّا منذ فترة طويلة! • ما بين الشعر، والرواية، والترجمة، إلى أي مدى تستطيع المصادفة أن تقول إنها أخلصت لأي منهما عن الآخر في خضمّ أنواء هذه الرحلة؟ - الرواية بالتأكيد، أحيانًا أظن أنني فعلت كل شيء في حياتي من أجل الرواية؛ كتبت قصائد، وسافرت كثيراً وكتبت أدب رحلات، وترجمت، وكتبت مقالات متأملة فيها مسيرة الروائيين العِظام والفلاسفة؛ في الواقع كل ما كتبت كان من أجل المستبدة؛ سيدتي الرواية. • يحضر المكان فى إبداعاتك بشكل كبير، وكأنه البطل، لماذا كل هذا الإغراق والالتصاق بالمكان وحيواته؟ - الرواية هي زمان ومكان وشخوص تصنع الأحداث، والمكان مهم في الرواية حتى ولو تمت الإشارة إليه باللامكان، كما حدث في روايتي الأخيرة «الحديقة المحرَّمة»؛ الرواية هي كتاب الحياة، ووجودها، والوجود مرتبط بالمكان والزمان، إذا أغفلنا المكان لصارت سيمفونية موسيقية أو كونشيرتو وليست رواية. • هل ساهم النقد في تطوير تجربتك الإبداعية؟ - بالتأكيد كثيرًا، جلست ذات مرة مثل تلميذة لأتابع أعمال أساتذة كِبار أثناء دراسة ومناقشة رواياتي بجامعة مولاي سليمان - بني ملال بالمغرب؛ شيء مذهل أن أكتشف كيف كان يعمل عقلي عند الكتابة، وأقف معهم أمام الحد الواهي بين الواقع والخيال، في الواقع أنا أستمتع أكثر بقراءة مقالات ومداخلات عن أعمالي، وأغبط ألمعية النقاد في كل أرجاء العالم العربي. • بمَ تنشغلين حالياً؟ - أجهز بعض رواياتي لطبعة جديدة بعد نفاد طبعاتها، وعدم وجود نسخة واحدة منها في السوق، ستصدر طبعة جديدة من «لعنة ميت رهينة»، وأواصل قراءاتي.
مشاركة :