في ذكرى رحيل مصطفى العقاد

  • 12/22/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

عشرة أعوام على رحيل المخرج السينمائي اللامع مصطفى العقاد، الذي ذهب ضحية عملية إرهابية نفذها تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين خلال حفل زفاف في فندق غراند حياة عمّان بالأردن في عام 2005. العقاد، السوري الأصل، الأميركي الجنسية، كان مهمومًا طوال حياته المهنية التي دامت زهاء أربعين عامًا بنظرة الغرب للإسلام، أقلقته هذه الانطباعات السيئة عن الدين الإسلامي الذي تربى على أنه دين التسامح والاعتدال، حمّل نفسه عبء تغيير الصورة الذهنية السيئة بقناعة منه أنه واجبه الشخصي تجاه ثقافته وهويته، لجسر الهوة بين الإسلام والغرب، لذلك لم تستطع حتى أجواء هوليوود التي عاش وعمل فيها وتعلّم في جامعة مجاورة لها، أن تنتزعه من جذوره وهويته العروبية والإسلامية. في فيلميه الشهيرين؛ «الرسالة» و«أسد الصحراء - عمر المختار»، قدم العقاد الإسلام للغرب بأسلوب بديع خلاّق اهتز له وجدانهم، ووشم على صدورهم المعرفة في أبهى صورة، لم يكن لواعظ أو داعية أو كاتب أن يقدمها كما فعل، وقد ذكرت شقيقته ليلى العقاد أن أكثر من عشرين ألفًا حول العالم اعتنقوا الإسلام بعد فيلم «الرسالة» الذي يحكي قصة الرسالة المحمدية، ومنشأ النبوة وصدر الإسلام. ومن يملك ألا يقع تحت تأثير هذا الفيلم التاريخي الساحر الذي يدق أجراس الجوارح، ويستدعي شعور الانتماء للهوية المعتقد، ليثريها بالتذكر والتأمل والشجن. لم يقدم الفيلم سردًا تاريخيًا للغرب فقط، بل حتى للمسلمين الذين كانت تخفى عليهم كثير من تفاصيل السيرة النبوية، حيث صدر الفيلم بنسختين منفصلتين؛ العربية والإنجليزية. حتى خلال تصوير الفيلم واجه العقاد صعوبة في التحكم في مشاعر الممثلين والكومبارس. يحكي في مقابلة معه أن مشهد مقتل حمزة بن عبد المطلب في غزوة أُحد أعيد أكثر من مرة، ولم يتبين السبب في بداية الأمر، ثم اتضح أن المجاميع البشرية التي كانت تقاتل في المعركة كانت تمنع «وحشي»، قاتل حمزة، من التقدم خلالها للاقتراب من حمزة! قالوا للعقاد لم نستطع أن نسمح له بالمرور ليقتل حمزة! هكذا جعلهم العقاد يعيشون أجواء التاريخ بحذافيرها، أبدع وكأنه يملك آلة الزمن التي تعيد المرء إلى التاريخ وتتحكم في مخيّلته ووجدانه، إنه تأثير خيالي لا يمكن وصفه أو صناعته إلا على يد المبدعين. عشرة ملايين دولار ميزانية معقولة جدًا لفيلم ترجم إلى اثنتي عشرة لغة، وعرض في ألفين وأربعمائة صالة سينما في الولايات المتحدة الأميركية، وكان التأثر بأحداث الفيلم يصل بالمسلمين في صالة السينما عقب كل مشاهدة إلى التكبير والصلاة داخل الصالة! وفي «عمر المختار»، شيخ المجاهدين، أبكى مصطفى العقاد الغرب قبل العرب، حرقة وألمًا على مشهد الشيخ الليبي ذي الثالثة والسبعين عامًا الذي أوهنه النضال والنوم في العراء في سبيل تحرير وطنه من المستعمر الإيطالي، وهو معلق بحبل المشنقة بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه؛ مما أشعل شرارة المقاومة في نفوس الليبيين من جديد حتى استطاعوا بالنهاية إخراج المستعمرين. يقول مصطفى العقاد في سرده لخلفيات هذا الفيلم إن زوجة الممثل العالمي «أنتوني كوين» الذي جسّد شخصية عمر المختار اتصلت عليه تشكو حال زوجها، تقول للعقاد ساعدني، إن زوجي لم يستطع الخروج من شخصية عمر المختار بعد عام من انتهاء تصوير الفيلم! إنه سحر الفن السينمائي الذي يلامس عمقًا في الروح يستعصى على الوصول من أي فن آخر. العقاد بذل عمره وجهده وعلاقاته وماله من أجل أن يقدم صورة ومعرفة عن الإسلام الحقيقي الذي يرتكز على العدل والرحمة والاعتدال وحسن الخلق، ومات على يد إرهابيين بلا رحمة ولا عدل ولا اعتدال ولا حسن خلق، يرتكبون جرائمهم باسم الإسلام افتراء وزورًا. كان ينوي إنتاج فيلمين؛ أحدهما عن صلاح الدين الأيوبي، والآخر عن الأندلس، ويا لهما من فكرتين مدهشتين ويا لتأثيرهما على النفس لو أنجزتا. كما قيل إن العقاد كان متأثرًا بما حل بسمعة الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ممن ألصقوا بالمسلمين صفة الإرهاب، فكان يفكر في إنتاج فيلم عن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. لقد خسرنا رجلاً مبدعًا، خدم الإسلام والمسلمين بمبادرة منه وإصرار، متكبدًا عناء البحث عن تمويل وعن أرض تستقبل أعماله تنفيذًا وعرضًا. للأسف، الأشرار أضروا بالطيبين، والإرهابيون قتلوا المسالمين، اليوم حلب التي يعشقها مصطفى العقاد يلقى عليها براميل متفجرة، ويتصارع عليها أراذل الناس من إرهابيين شوارعيين أو إرهابيين من سكنة القصور، وهؤلاء مواجهتهم طريقها طويل، وأدوات المواجهة كثيرة، إنما الواقع أن الأعمال الفنية الراقية التي يقوم عليها ذوو الأهداف السامية والمشاعر الصادقة، تترك أثرًا في النفس وتحوّلاً في الشخصية، يضاهي سنوات الدراسة وقراءات الكتب وساعات من التلقين. السينما - والقدرة على الإبداع - تصنع ثقافة عاطفية جياشة، وتثير التفكير والتحليل والتدبر، فكما أن الهالك الزرقاوي وابنته «داعش» هما صنيعة ثقافة التطرف والتشدد، فإن إضعافها يكون من خلال الثقافة المضادة؛ أي خلق التأثير المتحضر في أفكار الناس وعاطفتهم من خلال أدوات صناعة التأثير، وهي معروفة في كل العالم، إنها الدعاية والفن. a.alhazzani@asharqalawsat.com

مشاركة :