تتناول الكاتبة التونسية خولة حمدي في روايتها الجديدة «غربة الياسمين» العلاقة المُلتبِسة بين الشرق والغرب، وتدرس إمكانية الاندماج من عدمه في المجتمع الجديد على الرغم من شعور بعض الأبطال بالتمييز العنصري القائم على أساس اللون والدين والمُعتقَد. كما تغصّ الرواية بثيماتٍ فرعية كثيرة لم يرصدها الروائيون العرب الذين تناولوا ثنائية الشرق والغرب أمثال توفيق الحكيم، يحيى حقي، سهيل إدريس، الطيب صالح وسواهم من الكُتّاب العرب. أما دكتورة خولة حمدي التي عاشت ودرست في مدينتي سانت إيتان وتروا الفرنسيتين وظلت مُحتفظة بهُويتها العربية والإسلامية فقد تناولت موضوعات متعددة من زاوية نظر مختلفة تنطوي على قدر كبير من الشجاعة في الدفاع عن «الأنا» وتفكيك «الآخر» الذي يتمترس وراء رؤية عنصرية مقيتة لا ترى في القادم الجديد سواء أكان لاجئًا، أم مُهاجرًا، أم طالب علم إلاّ الوجه النمطي المُتعصب أو المُرشّح للإرهاب. لابد من الإشادة بحبكة هذا النص الروائي المُتقن وقدرة مبدعته في السرد، وخلق الأحداث، ونموّ الشخصيات المتعددة التي تضع القارئ أمام نص مراوغ في تبعيته المحلية أو العالمية. فثمة شخصيتان مُهاجرتان، الأولى رنيم شاكر التي قدِمت من مصر لأنها تحلم بالزواج من رجل فرنسي بعد أن مَحَت من ذهنها فكرة الاقتران بشاب مصري. وحينما حلّت في مارسيليا وقعت في حب المحامي ميشال روسو إلى الدرجة التي دفعتها للتبرع بكُليتها له قبل أن يهجرها لأنها «لا تُقدِّم له ما يحتاجه منها». ومع ذلك فقد أعطاها رقم هاتف صديقه المحامي جورج برنار مع توصية بتعيينها في مكتبه الخاص في باريس. أما الشخصية الثانية، فهي ياسمين عبد القادر التي جاءت من تونس بهدف الدراسة ونيل شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، والعيش مع إيلين، زوجة أبيها الثانية التي أنجبت له طفلين وهما ريان وسارة اللذين ينتميان إلى الثقافة الفرنسية ولا يعرفان شيئًا يُذكر عن الثقافة العربية. تحمل رنيم صفات محددة فهي متحررة جدًا، حسب تعريفها للحرية. كانت لديها مشكلة في النطق لكنها تغلّبت عليها وقررت أن تصبح محامية تترافع أمام حشود غفيرة. أما ياسمين فهي مُحافظة وقد تحجبت قبل سنتين وجاءت إلى ليون كي تدرس «ظاهرة الانتحار في موقع العمل» وتحصل على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية. ومع أنها تتقن اللغة الفرنسية لكن حجابها سوف يشكِّل أمامها عقبة كأداء لن تتجاوزها إلاّ بشق الأنفس. لا شك أن هناك لحظات حاسمة كثيرة في هذه الرواية من بينها لحظة تبرّع رنيم بكُليتها إلى صديقها ميشال الذي أحبته ومنحته عضوًا مهمًا من جسدها لكنه سيتخلّى عنها لأنه يعتبر الزواج عقدًا مُكبِلاً له! أما اللحظة الحاسمة الثانية فهي غياب الصديق الغامض عمر الرشيدي عن عيني ياسمين التي كانت تراه كل يوم في عربة المترو ذاتها وكان يناقشها على عجل في الكتب التي تقرأها مثل «الهُويات القاتلة» لأمين معلوف و«مسلمو الغرب ومستقبل الإسلام» لطارق رمضان وغيرهما من الإصدارات الفكرية الجريئة. لقد نجحت الروائية خولة حمدي في اصطياد القارئ أو وخزه بهاتين اللحظتين الحاسمتين اللتين ستبقيان عالقتين في ذاكرة القرّاء وهم يتتبعون مصير رنيم شاكر وياسمين عبد القادر من دون إهمال الشخصيات الأخرى التي تؤدي أدوارها ضمن السياق السردي للنص الروائي. ومثلما تترك رنيم مدينة مرسيليا لتستقر في باريس، تغادر ياسمين مدينة ليون لتستأجر غرفة في شقة رنيم، وتُصبح صديقتها الحميمة على الرغم من القناعات والأفكار المتناقضة التي تحملها كل شخصية على إنفراد. ولولا هذه المصادفة «القدرية» لما عرفت هذه الرواية طريقها إلى البناء المعماري المحكَم. لم تستطع ياسمين أن تندمج حتى مع أسرة أبيها المكونة من ثلاث شخصيات وهي إيلين زوجة أبيها، وشقيقيها ريان وسارة. وإذا كانت إيلين تتفهم فكرة الحجاب، والطعام الحلال الذي تطبخه خصيصًا لياسمين إلا أن الأب قد غيّر حتى اسمه من كمال عبد القادر إلى سامي كلود بغية الحفاظ على نجاحه المهني. أما شقيقتها سارة فهي تفضّل الحياة الغربية وتعتبر زياراتها إلى تونس مجرد رحلات سياحية لا غير! كثيرة هي المواقف العنصرية التي تصادفها ياسمين في حياتها اليومية والدراسية فحينما جاءت لمقابلة ديفيد كيلير تصوّرها باتريك عاملة تنظيف لأنها محجبة. كما طُلب منها غير مرة أن تخلع حجابها كي تحصل على تمويل لبحثها العلمي المكرس لظاهرة الانتحار في موقع العمل. المضايقات تلاحقها في البيت والعمل ووسائط النقل العام لكن رنيم تؤازرها على الدوام، وتتيح لها من دون قصد إمكانية التعرف على مصير عمر الرشيدي، الصديق الذي استلطفتهُ، وأحبت ثقافته الواسعة، وسلوكه المتحضر. يُعد عمر الرشيدي من أهم شخصيات الرواية التي استطاعت أن تبزّ ميشال روسو، وسامي كلود، وباتريك، وكريستوف نوارو، وهيثم، ووليد الراجحي وبقية الناس الذين لا يعرفون عنه سوى أنه «منعزل، ومعقّد، ومدمن للعمل»، ومنهمك في مشروع «الاندماج البارد» أو الطاقة النظيفة التي سوف توفر له ثروة هائلة. إذا كان غياب عمر الرشيدي لحظة حاسمة فإن الانفجار الذي حدث في شركة الكيميائيات في ليون وراح ضحيته ثمانية أشخاص من المختصين في الأبحاث العلمية يعد نقطة تحول أساسية في الرواية حيث يُتهم عمر بالإرهاب خصوصًا بعد الشهادة السلبية التي قدّمها البروفسور كريستوف نوارو وقال إنّ سلوكه غريب، ولا يختلط بالزملاء، ويُحيط عمله بسرّية تامة، فلا غرابة إن كان يخطط لتفجير الشركة، ونسف قسم الأبحاث العلمية من الوجود. كما استعملوا كارولين كأداة في التنفيذ من دون أن تدري، إذ حوّلوها إلى جاسوسه تتقصى تجاربه العلمية بحجة التعلّم والدراسة التطبيقية. هيثم الذي رفض الاقتران بياسمين يقترح عليها الزواج بعد أن تخلى عن صديقته الفرنسية لورا لكن الأمر ظل معلّقًا على الرغم من أن ياسمين قد صرفت النظر عن الدكتور عمر الرشيدي الذي أحبته عن بُعد وظلت معلّقة بثقافته والتزامه الديني. أما رنيم التي وافقت على اللقاء بميشال بعد 132 يومًا من الغياب رفضت عرضه للزواج وغادرت الصالة الباذخة التي أجّرها خصيصًا لهذه الليلة. كما أنها قررت السفر مع والدها إلى القاهرة على أمل أن تعود سريعًا جدًا كي تقدم طلب الاستئناف إلى المحكمة بعد أن زوّدتها كارولين بأدلة دامغة جديدة سوف تنقذ عمر الرشيدي من السجن المؤبد. أما ياسمين التي شعرت بنوع من العلاقة التي تنسج خيوطها بين عمر ورنيم فقد قالت جملة معبِّرة تختصر الكثير من الكلام عن عمر الرشيدي مفادها: «فكّ الله أسره.. وجمع بينكما في خير». كل الأحداث ظلت معلقة بانتظار تكملتها في الجزء الثاني.
مشاركة :