يصبح أي أنموذج اقتصادي جديد راسخا بالفعل حينما يبدأ معارضوه المزعومون في رؤية العالم من خلال عدساته. فقد حظي أنموذج دولة الرفاهية الكينزية الذي اقترحه جون ماينارد كينز، خلال ذروة رواجه، بدعم كبير من الساسة المحافظين لا يقل عن دعم اليساريين. وفي الولايات المتحدة، أبدى الرئيسان الجمهوريان دوايت أيزنهاور وريتشارد نيكسون قناعة تامة بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها الأنموذج، ومنها أسواق خاضعة للتنظيم، وإعادة للتوزيع، وتأمين اجتماعي، وسياسات اقتصاد كلي معاكسة للدورات الاقتصادية، فعملا على توسيع برامج الرفاهية الاجتماعية وتقوية اللوائح المنظمة لأماكن العمل والقواعد التنظيمية البيئية. تكرر وضع مشابه مع الليبرالية الجديدة، إذ جاءت الدفعة التي حصل عليها ذلك الأنموذج من خبراء اقتصاديين وساسة أمثال ميلتون فريدمان ورونالد ريجان ومارجريت ثاتشر، وكانوا متحمسين للسوق. لكن هيمنة الأنموذج في النهاية تعود بشكل كبير إلى قادة يسار الوسط أمثال بل كلينتون وتوني بلير اللذين كانا استوعبا كثيرا من أجندة هذا الأنموذج المؤيدة للسوق. بالتالي ضغط هذان القائدان من أجل إلغاء الضوابط التنظيمية، وتكريس التوسع المالي، والعولمة المفرطة، مع إعطاء تعهدات كاذبة بشأن تخفيف توابع ذلك الاتجاه كزيادة اتساع فجوات التفاوت وانعدام الأمن الاقتصادي. واليوم نجد أنفسنا في خضم تحول ينأى بنا عن الليبرالية الجديدة، وإن كان البديل غامضا بشدة. لكن لا يعني غياب نموذج صلب جديد شيئا سيئا بالضرورة، إذ لسنا بحاجة مرة أخرى إلى سلطة وصاية تقدم حلولا نمطية فضفاضة وخططا معدة سلفا لدول وأقاليم متباينة الظروف والاحتياجات. لكن يجب أن تكون السياسة الاقتصادية موجهة برؤية نشطة ومحفزة. يشير التاريخ إلى أن الفراغ الناجم عن انحسار الليبرالية الجديدة سيشغله قريبا أنموذج جديد سيتطلب في النهاية دعما من الأطياف السياسية المختلفة. وقد تبدو مثل هذه النتيجة مستحيلة، نظرا للاستقطاب السياسي الحالي، وإن كانت هناك في الحقيقة إشارات تدل على التقارب. ربما كان أهم تلك الإشارات ظهور إجماع جديد بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة حول "النزعة الإنتاجية"، التي تؤكد نشر فرص الإنتاج الاقتصادي عبر كل الأقاليم وكل شرائح القوة العاملة. وعلى العكس من الليبرالية الجديدة تمنح النزعة الإنتاجية الحكومات والمجتمع المدني دورا مهما في إدراك ذلك الهدف. كما أنها أقل ثقة في الأسواق، وأكثر ارتيابا من الشركات الكبرى، مع تأكيدها إعطاء الأولوية للإنتاج والاستثمار على التمويل، وإنعاش المجتمعات المحلية على العولمة. كما تحيد النزعة الإنتاجية عن دولة الرفاهية الكينزية بتقليل التركيز على إعادة التوزيع والتحويلات الاجتماعية وإدارة الاقتصاد الكلي، مع زيادة التركيز على التدابير المتعلقة بجانب العرض لإيجاد وظائف جيدة للجميع. كذلك يفترق أنموذج النزعة الإنتاجية عن الأنموذجين اللذين سبقاه من ناحية إظهاره قدرا أكبر من التشكك تجاه التكنوقراطيين، وإبدائه عداوة أقل حماقة وتهورا تجاه الشعبوية الاقتصادية. تعكس لغة خطاب إدارة جو بايدن الرئيس الأمريكي وكذلك بعض سياساتها، كثيرا من تلك العناصر. وتشمل الأمثلة تبني سياسات صناعية لتسهيل الانتقال الأخضر، وإعادة بناء سلاسل التوريد الداخلية، وتحفيز فرص الحصول على وظائف جيدة، مع إلقاء اللائمة على الأرباح الضخمة للشركات واتهامها بأنها السبب وراء التضخم، والممانعة حتى الآن في إلغاء الرسوم الجمركية ضد الصين التي فرضها دونالد ترمب الرئيس السابق. وعندما نرى صاحبة أعلى منصب اقتصادي في الإدارة الأمريكية وهي جانيت يلين وزيرة الخزانة، تبالغ في الإشادة بمزايا دعم الأصدقاء، ويقصد بها الاستعانة بحلفاء الولايات المتحدة كمصادر لسلاسل التوريد، وتفضلها على منظمة التجارة العالمية، ندرك أن الزمن يتغير. غير أننا نجد خيوطا كثيرة لهذا الفكر على جبهة اليمين السياسي أيضا. خاص بـ "الاقتصادية" بروجيكت سنديكيت، 2022.
مشاركة :