«غسان كنفاني»..أول شهداء الكلمة الفلسطينية المقاتلة

  • 7/8/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هناك حقيقة لها قوة الموضوع تماما .. وهي: آن الروائي والقاص والصحفي والفنان التشكيلي الفلسطيني، غسان كنفاني، أول من أدخلنا إلى قلب فلسطين، وقد كنت وجيلي نقف على بابها، ونحبها  دون أن نراها، كانت بالنسبة لنا شحنة عاطفية عالية، فأعادها أرضا تنبت البرتقال والياسمين ولكنها تنبت قبل ذلك الرجال والنساء والأطفال.. يقولون ـ وقد صدقوا ـ  أعاد  «كنفاني» فلسطين إلى أرضها، وأعاد الأرض إلى تاريخها، وأعاد التاريخ إلى أهله وأعاد الأهل إلى هويتهم الأصلية، فإذا فلسطين عربية باللحم والدم والهواء والشمس والقمر والمهد والقيامة والجلجلة والأقصى والحرم الإبراهيمي والأنبياء والمعراج والشوك والحصى ومياه العمادة والأغوار التي تضم في حناياها عشرات الصحابة الذين استشهدوا من أجلها وفي الطريق إلى تحريرها من الاحتلال الأجنبي . وبمقدار ما كان «غسّان كنفاني» أول شهداء الكلمة الفلسطينية المقاتلة في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة..بمقدار ما كان ـ بحسب تعبير أجهزة دولة الاحتلال ـ «لواء فكري مسلح». كانت فلسطين، المحور الدرامي، والبناء الثقافي، لقصص ومسرحيات غسان كنفاني، من «أرض البرتقال الحزين»، و «رجال في الشمس»، و«عائد إلى عكا»،  و«أدب المقاومة في فلسطين المستقلة»، و«الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال»..وغيرها..  ومنذ أول قصصه الناضجة بعنوان «شمس جديدة» عام 1956، بطلها طفل لاجئ من غزة يعانى من أجل قوت يومه وسط تجاهل المجتمع، إلى أن تبتسم له الحياة ويجد مصدرا دائما للرزق.. إلى جانب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني.. وكان «غسان» كاتبا ثوريا بارزا مسلحا بالفكر العلمي الاشتراكي. لواء فكري مسلح توج غسان كنفاني مسيرته بالشهادة.. تلك الشهادة التي كانت حاضرة في تفاصيل حياته القصيرة فقد استشهد في 8 يوليو/ تموز 1972 ، بعد انفجار عبوة ناسفة، وضعها الموساد الإسرائيلي، في سيارته حين كان برفقة ابنة شقيقته «لميس نجم» وعمرها 17 عاما. تناثرت أشلاء الشهيد مع الصغيرة لميس، وهي التي كانت أقرب إلى قلبه، حيث كان يكتب لها القصص ويهديها إياها في مناسباتها الجميلة. عقب اغتيال غسان كنفاني علقت رئيسة وزراء إسرائيل وقتئذ، غولدا مائير، على العملية، قائلة: «اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح. فغسان بقلمه كان يشكل خطرا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح» ، وهي التي أصدرت قرارا في ذات العام بتصفية عدد من أعلام الفلسطينيين وقياداتهم.   موعد مع القضية الفلسطينية منذ بداياتها كان مولد «غسان» مع انطلاق شرارة ثورة 1936 فى مدينة يافا ضد قوات الانتداب البريطاني، وكأنه على موعد مع القضية الفلسطينية فى بداياتها، ومن أول يوم فى حياته، ليظل طفلا شغوفا بوصف المعارك التى خاضها أبطال ثورة 1936 وتحصّنهم بالجبال كما لو كان أحد شهودها، وظهر بعض أبطالها فى إبداعاته فيما بعد..كان مسكونا بالهاجس الفلسطيني، وقد عاش المأساة الفلسطينية وحمل جراح شعبه واّلامه وهمومه اليومية في أعماق قلبه وسكبها في قوالب فنية جميلة وأصيلة جاءت تجسيدا صادقا لواقع البؤس والشقاء والحرمان والظلم والقهر الاجتماعي الذي يعيشه الفلسطيني المشرد والمطارد في المخيمات الفلسطينية وفي جميع اصقاع العالم.. لقد عشق الأرض والوطن الفلسطيني ، بسهوله وهضابه ووديانه وبرتقاله وزيتونه ورمانه ومدنه الثابتة، عاشقا لوطن تمت سرقته بفعل أخطر و«أقبح» مؤامرة في التاريخ الإنساني.. وطن قال عنه: «جدير بأن يحملَ المرءُ السلاحَ ويموتَ في سبيلِه».   السارد لتاريخ فلسطين كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة ، متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية..وأصدر حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات والدراسات، وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً.. وكانت تروي مشاهد حية لطفل  ولد في عكا، شمال فلسطين، وعاش في يافا حتى تاريخ النكبة في شهر مايو/ أيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم إلى سوريا..وعاش وعمل في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك في بيروت. كيف كانت فلسطين تتساقط شبرا شبرا؟! ونجد ذلك في مجموعة «موت سرير رقم 12» وتضم سبع عشرة قصة، منها «البومة فى غرفة بعيدة» التى تشير للنكبة التى لم تغب عن ذهنه طيلة حياته، ويقص بطلها صورة  «بومة» مبتلة بماء المطر من مجلة ويعلقها على جدران غرفته الخالية من الأثاث، وتفاجئه الصورة حين يأوى إلى فراشه فى الليل بتحولها إلى شيء بشع، وتشبه نظرة إنسان أجبر فجأة للاختيار بين الموت و الهرب، فتفجر اللحظة فى ذهن البطل شلالا من الذكريات، ويقول : «كان ذلك قبل عشر سنوات، تقريبا، كنت فى قريتى الصغيرة..التى تتساند دُورها كتفا إلى كتف فوق حاراتها الموحلة.. كنت طفلا آنذاك، وكنا نشهد دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت فلسطين تتساقط شبرا شبرا وكيف كنا نتراجع شبرا شبرا»..البطل شاهد وهو صغير بومة على غصن شجرة، وفى وهج نيران الحرب لمح فى عينيها تحديا مشوبا بالخوف والحيرة فى البقاء على الشجرة، أو التحليق بعيدا. وظلت الصورة عالقة فى ذهن الشاب الذى عاش المنفى بعيدا عن الوطن الذى ضاع فى لحظة اختيار سيئة.. وأهدى غسان هذه المجموعة إلى من استشهد فى سبيل فلسطين، وإلى من لم يستشهد بعد. وفي مجموعته «عالم ليس لنا» تبدو ملامح سطوة اليأس والشعور العميق بالمنفي، ونجد بعض القصص تمهد للخروج إلى عالم الكفاح المسلح. مثل قصة «العروس» التى تعد علامة فارقة فى إبداعات كنفاني، وبطلها مقاتل قروى انتزع بندقية تشيكية من جندى صهيونى فى حرب 1948، لكنها سرقت منه وبيعت لأحد الشيوخ فى قرية أخري، فيهيم فى المنفى ويسأل عن «العروس»، أى بندقيته، وبتكرار السؤال أصبحت رمزا للخلاص من المحتل الغاصب وبشرى بميلاد الثورة المسلحة.  المقاومة الفلسطينية ..الرجال والبنادق ونفس الصورة والمشاهد نجدها في مجموعته «عن الرجال والبنادق»، وهي متوالية قصصية تمزج سيرة السلاح بسيرة الأبطال الذين يذهبون للهجوم على قلاع الإنجليز، وتتناول أحداث تاريخ المقاومة منذ ثورة 1936 مرورا بفشل القيادات العربية فى حرب 1948، ثم تأسيس منظمة التحرير والتفاف الفلسطينيين حولها وانطلاق العمل الفدائي.. الصبى منصور وخاله يمثلان المحور الإنسانى الذى تدور حولهما قصص المجموعة والمرتبط بالبندقية، فالصبى يعشقها مع أنها تزن أكثر من نصف وزنه، وخاله الذى يملكها يحرص عليها حرصه على حياته، وذات يوم يطلب منصور البندقية للمشاركة فى صد الهجوم الواقع على صفد، ويقول له إذا مت فسيعيدها إليك حسام.   ظاهرة فلسطينية « ثقافية ـ ثورية» «أبو فايز كنفاني» الظاهرة الفلسطينية « الثقافية ـ الثورية»، طرحت سؤالا منطقيا:  كيف تمكن شخص رحل بعمر 36 عاما أن يكون: حزبيا، مثقفا، صحفيا، قاصا، روائيا، سياسيا، مناضلا، كاتبا للأطفال، شاعرا، رساما، عاشقا، مؤرخا، كاتبا مسرحيا، معلما، رب أسرة، وصاحب قضية، وأن يتوج كل ذلك بالشهادة؟ كان يراه البعض «كتيبة من المؤلفين»، وليس كاتبا فردا..وكان يقول عن نفسه، إنه لا يذكر يوما نام فيه من دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن 600 صفحة، كان يقرأ ويستوعب بطريقة استثنائية «غسان».. فنان تشكيلي قضى غسّان كنفاني حياته القصيرة (36 عامًا)، مناضلاً، وصحفياً، وكاتباً، وسياسياً، وروائياً، وقاصاً، وكاتباً مسرحياً، وناقد أدبياً، وباحثاً، ودارساً، وربما لا يعرف كثيرون انه كان ايضا فناناً تشكيلياً ، على درجة عالية من الوعي بوسائله الفنية..ويقال إن غسّان كنفاني الذي عاش زهاء ستة وثلاثين عامًا، رسم أيضًا ستة وثلاثين عملاً زيتياً وملوناً، أما الأعمال التي أنجزها غسّان بالفحم أو بتقنيات أخرى مثل قلم الرصاص والحبر فكثيرة، إذ كان ينشرها بمحاذاة النص القصصي أو القصيدة في النشرة الملحقة لصحيفة «المحرر» في ستينات القرن الماضي عندما كان يعمل في الصحيفة..إضافة لتصميم من الأسلاك جمع بين خارطة فلسطين وبندقية الصمت الحزين في القاهرة  وتستعيد ذاكرة مصر «يوم الصمت الحزين» في القاهرة، حسب وصف المفكر المصري الراحل، الدكتور غالى شكري، في كتابه «الثورة المضادة فى مصر»، الصمت الحزين في القاهرة على اغتيال «كنفاني»، عبر المسيرة الشعبيىة التي قادها فنانون ومفكرون ومثقفون مصريون وعرب، يوم 9 يوليو/ تموز، وأن بعض المشاركين حملوا لافتات وباقات من الورد لفت فى شرائط زرقاء، وكتب على هذه وتلك ما يفيد أنهم يشيعون جنازة «غائب»، وكان الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، هو هذا الغائب الذى تقصده اللافتات، حيث وقعت جريمة اغتياله وهو يهم بتحريك سيارته فى الجراج الكائن أسفل البناية التي يقيم فيها، فوق الهضبة الساحلية بمنطقة «الحازمية» التي تقع شرق العاصمة اللبنانية بيروت. ويذكر «شكرى»: رغم أن المتفجرات التى وضعت داخل المحرك بعناية بالغة قد مزقت الرجل وابنة اخته التى كانت تهم بالركوب معه، بحيث تحول الجسدان فى لحظات إلى نثرات صغيرة من اللحم المشوى، إلا أنه أمكن العثور بين الركام البشرى على بطاقة صغيرة كتب عليها بخط واضح: «مع تحيات إسرائيل».

مشاركة :