البداوة والصحراء في رواية المجوس

  • 7/12/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

محمد السعد m_alsaad15@ واحدة من أروع الروايات العربية والعالمية، رواية «المجوس» للأديب الليبي إبراهيم الكوني الذي ارتبط اسمه ارتباطا وثيقا بالصحراء. فقد نذر الكوني جل أعماله الأدبية لعالم الصحراء الساحر، وجعلها إطارا فضائيا يؤطر أحداث رواياته، ومع أنه عاش نصف قرن في أوروبا، ولكن ظلت الصحراء تجذب الكوني لعالمها الغامض بكل تجلياته التي تعبر بأصدق صورة تعبيرية عن عظمة الطبيعة. آمن الكوني بقيم الصحراء واعتبرها النموذج والمثال الصافي لحياة إنسانية فاضلة، فقد قال في أحد لقاءاته التلفزيونية إن العرب تخلفوا عن بقية الشعوب لأنهم تخلوا عن قيم الصحراء. ولأن الرواية «ابنة المدينة» كما وصفها الناقد المجري لوكاتش، وهو وصف دقيق في حقيقة الأمر، فالرواية لا يمكن لها أن تعبر عن وعي الصحراء وساكنيها. فخلف كل مظاهر الطبيعة الصحراوية في روايات الكوني، بكل تجلياتها وأساطيرها وطقوسها تكمن المدينة متخفية وراء هذا الكم الكبير من ظواهر الصحراء القاسية. تحكي الرواية قصة قبيلة أجبرها الجفاف والبحث عن الماء (كنز الصحراء) للاستقرار في بعض السهول عند بئر قريب من جبل آيدينان الذي تسكنه الجن، وعاهدوا القبيلة على عدم إيذائها مقابل أن تزهد في الذهب ولا تتعامل معه. لماذا الذهب بالذات؟ وأين تكمن الرمزية وراء رفض التعامل بالذهب؟ الذهب كما نعلم هو أساس التجارة والعملة الأكثر موثوقية في عالمها القائم على المنفعة الخالصة، وعالم الصحراء لم يكن يوما مسرحا للتجارة والتبادل، فالقيمة الأسمى في الصحراء هو العطاء بلا ثمن، لذا كانت خصلة الكرم قيمة أولى في عالم الصحراء القاسي. فعملية التبادل التجاري هي السمة المميزة لعالم المدينة، والكوني هنا يقحم المدينة بوعي أو دون وعي ويعرض بأهلها. يقول إبراهيم الكوني على لسان أحد شخصياته: «أعترف أني لست فقيها في دين المسلمين، ولكني أستطيع أن أقول إن المخلوق الزنديق حرف الوصية بمجرد أن هبط إلى الصحراء. خان الوصية. فإذا كانت المحاكاة هي شهادة تعلقه بالأصل السماوي فإنه زيفها عندما سمح لغول الجشع أن يقوده في التبادل ليتخذ من الذهب عملة للتعامل بدل الحب. علمتنا الصحراء أن الإنسان لا يحتاج إلا إلى الحب إذا أراد أن يخلد الذكر والنوع». الكوني هنا يلوم التجارة وثقافة الأسواق ويجعلها المقابل والضد لثقافة البداوة والترحال التي تمثل بالنسبة له التجسيد الأولي والأزلي لمدلول الحرية، حيث يعيش البدوي قمة سعادته إثر عثوره على مصدر الماء ويقابلها حزنه وألمه عندما يجف الماء أو يكتشف أن بحثه الحثيث عن الماء لا يقوده إلا نحو السراب. يعيش البدوي في حالة ترحال دائم وبحث مستمر عن مصادر المياه والكلأ حيث الصحراء الشاسعة التي لا تحدها حدود هي المركز وما عداها هامش. فالجماعة البشرية عندما تكون في حالة ترحال مستمر فإن العلاقة بين الأفراد لا تقوم على مبادئ التبادل والمنفعة ولا تعترف بقيم السوق، فحياة البداوة لا تكتسب معناها من خلال التبادل التجاري بل من خلال التسخير السماوي والهجرة المستمرة بحثا عن أكسير الحياة الصحراوية (الماء). تتجسد العلاقة بين الأفراد في إطار القبيلة التي يحقق فيها البدوي كينونته الوجودية من خلال منظومة القيم والعادات والتقاليد ويصنع من خلالها منظومته الثقافية القائمة على مبادئ لا يشترك السوق ومبادئ التجارة في صياغتها، ففي ظل القبيلة تجسيد حقيقي لثنائية (الأمن والخوف) على اعتبار أن حياة البداوة شرف لا يناله إلا الأقوياء. ففي رحاب الصحراء تتجسد الشجاعة والكرم والمروءة في أبهى صورها، في عالم نقي لا يقطنه التجار وأرباب الذهب ولا يتدخلون في تشكيله.

مشاركة :