البداوة.. ليست فقط خيمة وصحراء

  • 5/27/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مع موضة البداوة هذه الأيام التي كانت ردة فعل على تصريحات وزير الخارجية اللبناني شربل وهبة، فإن الوقت مناسب لكي نعي جيداً أن دلالة هذه البداوة أكبر بكثير من مجرد نوستالجيا نصنعها لنجسّد ذواتنا العالقة في هذه المادية الشرسة. البداوة أكبر من مجرد خيمة وناقة ودلّة قهوة و(قدوع). البداوة منظومة لا تتكرر من القيم الإنسانية الرفيعة والممتدة في جذور الزمان والمكان والإنسان. البداوة قيم، وشيم، ومواقف، ورجولة، ونبل، وفروسية. إنها تعني التعالي على الصغائر، والتسامي عن الإسفاف، والكبرياء في غير عجرفة، والتواضع في غير ابتذال. البداوة ابتكرت قيمها التي عكست نبلها، وحتى في الحروب والمعارك التي كانت وسيلة البقاء الوحيدة لها قد ابتكرت (قواعد الاشتباك) الخاصة بها، فلم تكن تُسرف في القتل؛ لأن الهدف محدد وسريع وهو الغزو والحصول على ما يسد الجوع دون اللجوء للقتل ما أمكن؛ فقد يحصل أن تتحالف مستقبلاً كلا القبيلتين في وجه خصم ثالث، ولم تكن تقترب من النساء والصبيان، فإذا ما حصل الغزو ولم يكن هناك سوى النساء فإن الغزو يُلغى فوراً، وإذا ما وقفت امرأة (تفرع) عن قومها وسط المتحاربين فإن المعركة تُلغى فوراً ويعود الغزاة من حيث أتوا. إن من يتأمل في فضاءات الحياة في هذه الصحراء، ويرى كل ذلك الانعكاس القيمي لإنسانها، لا يملك إلا أن يُدرك أن كل تلك البدائية الظاهرية إنما هي غلافٌ لجوهر حضاري وإنساني وقيمي يندر أن يكون له مثيل في كثير من الشعوب. ذلك الجوهر امتدادٌ لمئات السنين، إلى ذلك العصر الذي يسمونه (الجاهلي) والذي كان خلاصة الإعجاز القيمي والأخلاقي للعرب، برغم تشويه الأصابع الشعوبية المتغلغلة في كل منافذ الثقافة والأدب والتاريخ والنصوص الدينية. البداوة شكلٌ من أشكال البراءة الفطرية لإنسان ما قبل الطفرة النفطية والصحوة الدينية. تتوزع تلك البراءة على كل المناطق والبيئات، والبداوة أحد أشكال تلك البيئات: في الصحراء، في القرية، في الجبال، على السواحل... كلها حملت منظوماتها القيمية والأخلاقية الرفيعة، فحينما يصبح الجميع فجأة (بدوياً) في لحظة ردّة فعل، حتى تلك (المودل) الشهيرة بتسويق منتجات التجميل حين تصبح بدويةً فجأةً هي الأخرى و(ثوبها على المتن مشقوق) أيضاً، فهذا لا يعني أن الجميع قد حقق قيم البداوة وأصبح يتحلّى بطوق شيمها وتاج نبلها. البداوة لا تتطلب منك الدخول في أجوائها، ولا أن تجبر نفسك على أكل الإقط وشرب لبن الناقة ولا أن تضطر إلى لبس (المِجْند) على الثوب كي تتحلى بالبداوة، لكنك ستحمل روح البداوة، وجوهر شيم الأجداد بين جنبيك وفي قلبك ورأسك وأنت ترتدي الجينز والقميص وتمشي في الهايد بارك في لندن أو تسير بين مقاهي الشانزليزيه حين ترى من يحتاج إلى المساعدة فتهب لمساعدته، أو حين ترى ابنة بلدك المبتعثة الجميلة فلا تحاول معاكستها فتتركها تمضي (حتى يواري جارتي مثواها) وهنا، تحديدا، ستكون أكثر برّاً بانتمائك؛ لأنك تحمل نكهة تراب هذه الأرض في دمك. فلتكن هذه العودة إلى (البداوة) عودةً حقيقية إلى قيم كثيرة منسية.. عودة ذهنية وروحية شاملة، ووقفة تأمل جماعية في الذات المتوارية بفعل الزمن والتزييف والأثمان الباهظة لمزايدات المتاجرين بقيم الهوية.. عودة جيل يريد أن يستند على إرث حقيقي وهو يتجه إلى المستقبل. إننا نملك ما لا تملكه أكثر الأمم، فإذا تم استحضار ما توارى من قيم أصيلة أفسحت المجال لقيم مزيفة رُسمت خلال العقود الماضية، وحصل أن دخل إنسان هذه الأرض في روح التنافس الأممي والحضاري بتلك القيم، واستلم دوره النهضوي الوثّاب وهو يحمل تلك القيم، فإن هذا الإنسان سيكون قائداً حقيقياً لبقية الشعوب في هذا العالم.

مشاركة :