أيها المثقفون لا تنزلوا من أبراجكم العاجية.. نحتاجكم هناك

  • 7/17/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أيها المثقفون لا تنزلوا من أبراجكم العاجية.. نحتاجكم هناك الأدب السائد من كتابات بعض المبدعين العرب المهاجرين هو أدب نوستالجيا الوطن وليس أدب مهجر أو أدب رحلات. ابتسامة صاحب الصورة أهم من برج إيفل أدب الرحلات يعني الكتابة عن الآخر البعيد. هكذا أفهم الأمر. كان مرتبطا بحركة الرحالة عبر العالم. حركة بطيئة بحكم وسائل النقل البطيئة: جمال وسفن. لا يوجد أدب رحلات لمن يحجز اليوم تذكرة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في بلد يبعد ساعتي طيران. الرحالة كان يصف البلاد. الكثير من عالم العصور الوسطى تم تسجيله بأعين الرحالة. هو أدب مقارن، لأن الرحالة عادة ما يحمل ثقافته في عينه وهو يرصد الآخر. هل بقي الكثير من أدب الرحلة؟ من الصعب الحكم. آخر من كتب أدب الرحلات بتميز هو في. أس. نايبول الذي حصل على جائزة نوبل للآداب قبل أن يرحل عن عالمنا منذ بضع سنوات مضت. كانت جائزة نوبل تأكيدا على أهمية هذا النوع من الأدب رغم اضمحلاله. لماذا يضمحل أدب الرحلات؟ لأنه استبدل بثقافات مختلفة. اليوم هناك ثقافة السفر السياحي. أجواء العالم كانت مليئة بالطائرات قبل كوفيد. ها هي الطائرات تتزاحم مجددا. عندما تشاهد مدنا سياحية مكتظة بالزائرين، تتساءل: أين ذهب أهل المدينة الأصليون؟ أنت لا تشاهد المدينة كما كان يشاهدها الرحالة، أي المدينة الطبيعية المكتفية بأهلها، بل ترى نسخة سياحية منها مؤثثة بالمطاعم والمقاهي والفنادق. اسأل بريطانيا من جنوب لندن إن كان قد زار متحفا وسط العاصمة البريطانية وسيصدمك بأنه لم يفعل: هذه أماكن للسياح. ما يسجله السائح عن زيارته في تراجع مستمر. كان البعض يكتبون عن الأماكن التي زاروها وانطباعهم عنها. ثم تراجع هذا “الأدب” إلى ما يكتفون به من تعليقات على صور فوتوغرافية تسجل على فيلم ينتظر التحميض والطباعة. ثم جاء عصر الكاميرا الرقمية، وتسللت الصور لمعالم المدن إلى الإنترنت. ومع تحول الهاتف إلى كاميرا، اختفت المعالم لصالح السيلفي حيث وجه وابتسامة صاحب الصورة أهم من برج إيفل. يمكن القول بلا تردد إنه من المشكوك فيه أن السائح نظر حقا إلى البرج أو مباني باريس الجميلة، بقدر ما كان همه صورة السيلفي. الصور اليوم مكانها صفحة على فيسبوك أو إنستغرام، بلا أيّ تعليق تقريبا. أدب الرحلات صار ألبوم صور على مواقع التواصل. كنا نرسل رفاعة رافع الطهطاوي إلى فرنسا ليكتب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. كتاب هو بروفايل لمدينة باريس بعين رجل قادم من الشرق. باريس اليوم تغص بالمهاجرين العرب، وخصوصا من شمال أفريقيا والمشرق. هؤلاء كادحون لا تهمهم الكتابة عن المكان الذي يقيمون فيه. تكتب عمّاذا؟ عن مطعم في الشانزيليزيه يبيع “تمن باقلة” أي رز بالفول على الطريقة العراقية؟ المهاجرون ممن استقروا في أوروبا يحملون بلادهم معهم، سواء أقدموا إلى تلك البلاد لأسباب اقتصادية أم سياسية. ستنذهل بكم لا يعرف المهاجر عن مدينة عاش فيها لسنوات. الدكان الذي يبيع بضاعة إيرانية، من الفستق إلى الخضروات، يصر صاحبه على أن تكون القناة التي يعرضها تلفزيونه هي قناة إيرانية. يسمع أخبار لندن من قناة إيرانية تنطق بالفارسية، وليس من “بي بي سي”. الحلاق التركي يحس بالامتعاض عندما يقول له زبائنه الذين ينتظرون دورهم بأنه يضغط عليهم بالإصرار على إبقاء قناة تتحدث التركية في التلفزيون المعلق فوق المرايا الكبيرة وقريبا من السقف. لا أذكر آخر مرة سمعت عربيا يتحدث عن أخبار بريطانيا، فكل الحديث هو عن أخبار من الشرق الأوسط تنقلها “الجزيرة”، و”العربية”، و”الحدث”. عرب المهجر لا يتابعون “بي بي سي” عربي أو “فرانس 24” عربية أو “دويتشه فيله” العربية. إذا كانوا سيكتبون، فسيصفون عقدهم الاجتماعية والسياسية في ما يرونه في الغيتو الجغرافي والنفسي الذي صنعوه لأنفسهم. غيتوهات مركزها دكاكين لبيع المنتجات العربية واللحم الحلال، أو مؤسسات دينية هي واجهات للإخوان أو حسينيات تنطلق منها مسيرات اللطم في عاشوراء. الأدب السائد من كتابات بعض المبدعين العرب المهاجرين هو أدب نوستالجيا الوطن، وليس أدب المهجر وبالتأكيد هو ليس أدب رحلات. إذا كنت محظوظا، فسيقع بيدك كتاب مثل كتاب الصديق صموئيل شمعون “عراقي في باريس”، الذي ينتمي إلى المنطقة الرمادية، بين حياته ورحلته العراقية والشامية، وبقية الرحلة الباريسية. ثم من لديه الوقت لمطالعة كتاب عن أدب الرحلات وهو يرى الفضائيات تعرض وثائقيات أعدها غربيون عن مدنهم للترويج لها وتمت دبلجتها. في ساعة، ترى برنامجا عن برلين وتعرف عنها أكثر من أيّ عربي زارها أو سكنها. أو ربما من الأفضل مشاهدة مسلسل تركي مدبلج. أدب الرحلات جنس أدبي رفيع نقل للعالم صورة عن عوالم مختلفة في محطات تاريخية مختلفة ومراحل متعددة. من غير الصحي أن نراه يذوي عربيا. د. هيثم الزبيدي كاتب من العراق مقيم في لندن

مشاركة :