ماجت الحياة العربية بثورات فكرية منذ ظهور الإسلام مع ما أحدثه من تغيرات جوهرية في بنية المجتمع العربي، وفي عهد الدولة الراشدية علا هدير الاختلاف وانتقل إلى مرحلة العنف السياسي، وفي عهد الدولة الأموية تمأسس بعض الفكر العربي وصارت له تيارات كالخوارج والمعتزلة وغيرهما. وظهرت تيارات فكرية تعاركت في سبيل ترسيخ معتقداتها. في هذا الجو، وجد في العالم الإسلامي علم الكلام ومن أعلامه ابن عطاءالله السكندري. جاء في كتاب “البعد الكلامي في تصوف ابن عطاءالله السكندري (1260 – 1307 ميلادية)” للمؤلف يحيى عمايري مدرس مادة الفلسفة بدمشق، والصادر عن دار كنعان للدراسات والنشر بدمشق، أنه اختصر معرفته التي تعلمها في الطريقة الصوفية الشاذلية وعن شيخه أبوالعباس المرسي في الحكم العطائية التي جمعها عنهما. يبين يحيى عمايري في كتابه أن “طريقة ابن عطاءالله السكندري التي جمعت بين الذوق والعرفان الصوفي من جهة وبين الاستدلال الاستنتاجي من جهة أخرى، فزاد لرصيد الكلام والمتكلمين نكهة روحية عرفانية، دون شطط من حلول أو اتحاد، وأرسى دعائم طريقة صوفية على أسس نظرية كلامية”. السكندري وحِكمه يتابع المؤلف “تم تقديم ابن عطاءالله السكندري في الأوساط الدينية والثقافية كمتصوف شغف قلبه بالاتصال بأنوار الأحدية التي تضيء وجدانه، فيسيل حبره حِكما كاد البعض يعتبرها وحيا، إلا أن أحدا لم ينتبه إلى أن طريقته كانت تنم على مستوى فكري رفيع. حيث أنه لم يكتف بحدسه العرفاني بل نراه يصقل ذلك الحدس والعرفان بالدليل والبرهان معتمدا على العقل، أداة في البحث عن المعرفة، وفي التدليل على الوجود الإلهي بشهود الأحدية، فهو عالج قضايا كلامية كمشكلة الجبر والاختيار وحرية الإرادة الإنسانية”. ◙ وجود علم الكلام بمسمياته المختلفة شكل الحالة الأكثر صدامية في تاريخ الفكر العربي والإسلامي وتعرض رموزه للقتل ويؤكد عمايري أن البعد الكلامي في طريقة ابن عطاءالله السكندري قد تم إهماله والتركيز على البعد الصوفي، ويعدد المحاولات التي فعلت ذلك وتناولت شرح حكم ابن عطاءالله، منها محاولة محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي الرندي وأحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الفاسي وعبدالمجيد الشرنوبي ومحمد سعيد رمضان البوطي. ويذهب عمايري في بحثه إلى الحديث عن ابن عطاءالله من خلال البعد الكلامي، وتحقيقا لذلك تناول في كتابه مواضيع عدة، أولها في حدود المعرفة عند ابن عطاءالله ومعارضته لأفكار المعتزلة، وثانيها في الألوهية ودلالاتها ووجود الله بذاته وصفاته، وثالثا في تناول مشكلة الإرادة الإنسانية. وفي خاتمة كتابه يثبت عمايري بعض المسائل منها أن السكندري يختلف عن غيره من المتصوفة في توافقه مع أهل الكلام في إعمال العقل في نقد المعرفة وكذلك في اعتماد المنهج الموصل إلى الحقيقة وهو الاستدلال الناجم عن الانتقال من المقدمات إلى النتائج، ومن ثم في اعتباره التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم والقرآن جميعها محتوية على أسماء الله الحسنى الألف، والسكندري حسب عمايري، لم يأخذ بالحلول والاتحاد، وأنه تأسيسا على موقفه من مقولتَي الجبر والاختيار والضرورة والحرية أسقط التدبير ومنازعة المقادر. وعارض المؤلف ابن عطاءالله في موقفين، الأول في إسقاطه التدبير والإرادة، فالمؤلف يرى أن الابتعاد عن الارتجال والتخطيط للمستقبل ليس فيه معارضة وتحد للقدر، والثاني هو في أخذه بالجبرية المطلقة التي تعني أن الإنسان مجبر على أفعاله بالكامل سواء كانت خيرا أم شرا، وهذا ما يعارض برأي عمايري معنى التكليف والحساب. شاعت حِكم ابن عطاءالله السكندري بين الخاصة والعامة، وبعضها انتقل ليكون جزءا من اللغة والأفكار اليومية لعوام الناس، ويكون عددها بالمئات، يعرف الناس بعضها، أما الخاصة فتعرف معظمها أو كلها. وفيها حكم شهيرة منها “الفكرة فكرتان، فكرة تصديق وإيمان وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار والثانية لأرباب الشهود والاستبصار”، وحكمة ثانية تقول “الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له”. وفي ثالثة يقول “لم ينفع القلب سوى عزلة يدخل بها ميدان فكرة” وحكمة رابعة تبين “أنت حر مما أنت عنه يائس وعبد لما أنت له طامع” كذلك يقول في حكمة قصيرة بليغة “لم يقدك شيء مثلما قادك الوهم”. تاريخ من الآلام شكل وجود علم الكلام بمسمياته المختلفة (علم أصول الدين أو علم العقيدة) الحالة الأكثر صدامية في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، فقد وجد في مرحلة تاريخية متأججة فكريا وسياسيا، فمع بدء عهد الدولة الأموية في دمشق، ظهرت في الأفق الفكري الديني ملامح جديدة كان السبب فيها تمازج المسلمين من العرب مع عناصر غير إسلامية حينا وغير عربية حينا آخر، فاجتمعت أفكار عديدة خرجت بلبوس جديد كان من أشكاله علم الكلام الذي هو علم إسلامي صرف. الرأي الغالب لدى العلماء وأصحاب الرأي في الدين الإسلامي هو رفض علم الكلام، فأصحاب المذاهب الأربعة وقفوا ضده والتقى علم الكلام مع الفلسفة في امتلاك ناصية الحجج العلمية لإثبات معتقدهما، لكنهما اختلفا في أن مجال الفلسفة كل العلوم، بينما مجال علم الكلام الفقه الإسلامي، واختلفا في أن الفلسفة ترمي إلى إثبات حقائق علمية بعد عملية الشك بها، وفي علم الكلام يؤمن أحدهم بمعتقد ويبحث عن حجج علمية لكي يدعم وجوده ويؤسسه على سند قوي، ففي الفلسفة لا مكان للقلب والروحانيات، وفي علم الكلام ينطلق الشخص منها للوصول إلى اليقين. وفي التعريف، فإن علم الكلام هو الذي يبحث في إثبات العقائد الدينية الإسلامية بالاعتماد على الحجج العقلية والبراهين التي تقوم عليها، وكثرت فيه التعريفات، فعدّه الفارابي “صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة الّتي صرّح بها واضع الملّة وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل”، وعرفه ابن خلدون بأنه “علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات”. وعنه قال الإمام الغزالي “العلم الذي يراد به حفظ العقيدة، وحراستها من التشويه، ومن أهل البدع”. أما محمد عبده فقال بأنه “علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يُثبت له من صفات، وما يجوز أن يُوصف به، وما يجب أن يُنفى عنه”. لم يكن نشوء ومن ثم رسوخ علم الكلام أمرا متاحا برفق، بل واجه الشدائد والصعاب والمخاطر التي وصلت إلى الموت في سبيله، فدفع من أسسوا له حيواتهم ثمنا لمعتقدهم. وكان من أوائل من أسس لعلم الكلام معبد الجهني. وقد عاش بالبصرة في العراق، وناقش مطولا في موضوعة نفي القدر وسمي مذهبه بالقدرية، وكان يخالف فيه قول الظاهر من الرأي في عهد الدولة الأموية التي كانت تتبنى فكرة أن الإنسان لا يملك قدره فهو مجبر عليه، وهو جوهر مبدأ الجبرية، وكان معبد يرى أن السلطان هو من فرض مبدأ الجبرية رغم أنف المعارضين، ومن هنا جاءت تسمية “لا قدر والأمر أنف”. وعنه أخذ غيلان الدمشقي علومه، وثار على الأمويين في ولاية الحجاج الذي قتله لاحقا. تلميذه غيلان الدمشقي كان نصرانيا قبطيا فأسلم وسكن دمشق وناظر الخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز، وذهب كما معلمه في رفض الجبرية، ورأى أن الإنسان مخير وسوف يحاسب على خياره، وعارض غيلان رأي الأمويين في مسألة الخلافة، فقال بوجوبها في من كان قائما بالكتاب والسنة ولو كان غير قرشي، ولا يثبت إلا بإجماع الأمة، وكانت أفكاره أساسا لفرقة المعتزلة، وبدوره مات بقسوة على يدي الخليفة هشام بن عبدالملك. حِكم ابن عطاءالله السكندري شاعت بين الخاصة والعامة، وبعضها انتقل ليكون جزءا من اللغة والأفكار اليومية ثالث المؤسسين لعلم الكلام كان الجعد بن درهم الذي عاش بدمشق، وكان يرى أن الله منزه عن كل الصفات القديمة وأنه لا يستقيم أن يكون الله بصفات الحدوث، ومنها صفة القول، وهذا ما أوصله إلى رفض أن يكلم الله موسى وأن يكون له إبراهيم خليلا، بعلة أنه لا يمكن أن يشارك الله الصفات مع مخلوقاته. أفكاره كانت أساسا لموضوع خلق القرآن والتي كان أحمد بن حنبل ضحيتها. وقتل الجعد بن درهم بطريقة قاسية من قبل الأمير خالد القسري بذبحه في أول أيام عيد الأضحى. ورابع هؤلاء المؤسسين كان الجهم بن صفوان أحد منظري المعتزلة، وهو من أوجد فكرة المعطلة التي تقوم على نفي كل الصفات عن الله فهو منزه عن كل الصفات لا يشبهه شيء ولا يحده شيء، وقتل في ولاية في أصفهان بعد أن شارك في حراك مسلح على الحكم الأموي ومازال مقتله غائما بين عقوبة فكرية أو سياسية. مواقف رافضة الرأي الغالب لدى العلماء وأصحاب الرأي في الدين الإسلامي هو رفض علم الكلام، فأصحاب المذاهب الأربعة وقفوا ضده، تراوح الأمر بين القبول الفاتر عند أبي حنيفة والرفض الظاهر عند الشافعي. سئل أبوحنيفة عن علم الكلام فقال فيه “إنّي لمّا أردت تعلّم العلم، جعلتُ العلوم كلّها نصب عيني، فقرأت فنا فنا منها، وتفكّرت في عاقبته، وموضع نفعه. فقلت آخذ في علم الكلام، ثمّ نظرت، فإذا عاقبته سوء، ونفعه قليل، وإذا كمل الإنسان فيه، لا يستطيع أن يتكلّم جهارا، ورُمي بكل سوء، ويُقال عنه صاحب هوى”. أما الإمام مالك فقد رأى أنه يجب الابتعاد عن علم الكلام وتأويلاته والوقوف على حدود النص وعدم الجدل فيه قال “رأيت أهل الكلام يكفّر بعضهم بعضاً، ورأيت أهل الحديث يخطّئ بعضهم بعضاً، والتّخطئة أهون من الكفر”. أما الإمام أحمد فقال “تجنّبوا أهل الجدال والكلام، وعليكم بالسّنن، وما كان عليه أهل العلم قبلكم، فإنّهم كانوا يكرهون الكلام، والخوض من أهل البدع”، بينما قال الإمام الشافعي في حكم الوصية بكتب العلم والمحتوية على كتب في علم الكلام “لو أنّ رجلاً أوصى بكتبه من العلم، وفيها كتب الكلام، لم تدخل كتب الكلام في تلك الوصيّة”. ويقدم أحد مشاهير الفكر العرب المسلمين هو أبوحيّان التّوحيدي رأيا غريبا في علم الكلام فيقول “كلّه جدل ودفاع، وحيلة وإيهام، وتشبيه وتمويه، وترقيق وتزويق، ومخاتلة وتورية، وقشر بلا لبّ، وأرض بلا ريع، وطريق بلا منار، وإسناد بلا متن، وورق بلا ثمر، والمبتدئ فيه سفيه، والمتوسط شاك، والحاذق فيهم متّهم؛ وفي الجملة آفته عظيمة، وفائدته قليلة”.
مشاركة :