اقترحت في الجزء الأول استبدال «رؤية الكويت 2035»، برؤية «الكويت بلا نفط»، واليوم نستكمل الفكرة لتأكيد أهمية التعليم للمحافظة على مستوى المعيشة في «كويت بلا نفط». لست متخصصا في التعليم، لكنني أقدّر أهميته للتنمية والاستقرار، وأتوقّع أن ما أصابه من تدهور لم يكن بسبب غياب المسطرة التي كان الأستاذ يضرب بها يد مَن ينسى الواجب، وإنما لاعتقاد الطالب بأن ما يتلقاه من تعليم لن ينفعه، مادام البلد غنيا بنفطه. في مبادرة نشرت خلال أكتوبر من العام الماضي، بعنوان «مِن هنا نُبحر»، شارك في إعدادها فريق من المتخصصين المهتمين بالتعليم جمعتهم الرغبة خلال فترة توقّف التعليم لـ 7 أشهر، بسبب الجائحة، للحد من تدهور التعليم والنهوض به، شخّصَت المبادرة تفاصيل واقعنا التعليمي من نتائج «التقييمات الدولية في تحصيل الرياضيات والعلوم TIMSS»، وبينت أن خريج الثانوية العامة في الكويت يحتاج إلى 5 سنوات تعليم إضافية ليعادل خريجي الثانوية العامة في دول أخرى، وأن مجموع سنوات التعلّم الفعلية للطالب لا تتجاوز 6 سنوات من مجموع السنوات التي يقضيها في المدارس الحكومية. وفي اختبار القراءة والكتابة الدولي PIRLS، تبين أن 51 بالمئة من الطلبة في سنّ العاشرة لم يتعلّموا القراءة، رغم حجم الإنفاق على التعليم، الذي يعتبر من الأعلى على مستوى العالم. وأتوقع أن طلبتنا، في الحقيقة، أفضل مما تظهره نتائج التقييمات الدولية، لكنّهم يعلمون أن النجاح لا يتطلب جهدا، لأنهم بطريقة ما، سينجحون ويحصلون على شهادة التخرج والوظيفة المستقرة في الجهاز الحكومي كحال 85 بالمئة من العمالة الوطنية. هذا في نظري ما يجب الاهتمام بإصلاحه للنهوض بمستوى التعليم، وزارة التربية مسؤولة عن حوالي 700 ألف طالب وطالبة في مختلف المراحل، 300 ألف منهم في مدارس خاصة، والبقية في مدارس حكومية مجانية تكلفة الطالب فيها حوالي 7000 دينار سنوياً، مقابل أقل من 3000 دينار متوسط تكلفة الطالب في المدارس الخاصة «الباهظة الثمن»، مما يعني أن كل طالب ينتقل من التعليم الحكومي إلى الخاص يوفر على المال العام ويستفيد من مستوى تعليم أفضل. الشيطان طبعا في التفاصيل، لكنّ الفكرة العامة أن التعليم المميز ليس بحاجة إلى المبالغ الهائلة التي تصرفها وزارة التربية سنويا، والنتائج التي تحققها مدارس التعليم الخاص تؤكد ذلك، كما تؤكد أن المنافسة محدودة، والطلب على التعليم الخاص في ازدياد. يمكننا تلبية الطلب بفتح المجال للمزيد من المدارس الخاصة، بعد إنشاء هيئة أو مجلس تعليم خاص منفصل تماما عن وزارة التربية، تشرف عليه مؤسسات عامة تعنى بالأجيال والبحوث والتعليم، خاضعة لرقابة مجالس لا تهمها الانتخابات ولا التكويت، بقدر ما يهمّها الأداء والتحصيل العلمي، مثل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ومعهد الأبحاث العلمية والتأمينات الاجتماعية، وغيرها، لتقوم كل منها بتسلّم عدد من المدارس الحكومية لإدارتها كمدارس خاصة، بالتعاون مع مؤسسات تعليمية دولية معتمدة ومعترف بكفاءتها. لن أدّعي أن التعليم الخاص لا يعاني تدهورا مشابها للتعليم الحكومي، لكن هذا الامر ممكن علاجه، وقد يكون سببه الالتزام بالمعايير المستخدمة في المدارس الحكومية، لذلك سوف تحتاج الهيئة الجديدة إلى معايير جودة عالية تحت إشراف ورقابة هيئات متخصصة مستقلة تحدد مستوى التعليم المطلوب وطريقة المحافظة عليه، وتنذر المدارس الخاصة التي مستوى التعليم فيها مشابه للمدارس الحكومية، بسحب الترخيص أو عدم الاعتراف بالشهادة، إن لم تبادر بتحسين مستواها خلال فترة محددة. وإضافة إلى ما تقدّم، شباب اليوم بحاجة إلى رسالة صريحة وواضحة بأن بلدهم يهدف إلى المحافظة على مستوى المعيشة الذي تعودوا عليه، وليس أمامه، بعد الله، إلا أن يعتمد عليهم في تحقيق ذلك. المستقبل يوحي أن إيرادات النفط ستنخفض، والمنافسة في سوق العمل الحكومي والخاص ستكون أصعب، والشهادة والواسطة لن تكفيان لضمان الوظيفة، لذلك عليهم الاهتمام بالدراسة، لأنّ فرص العمل لن تكون متساوية للشاطر والكسلان. الدولة ليست بحاجة إلى الـ 400 ألف موظف الحاليين لتقوم بدورها على أكمل وجه، ولا يمكنها توظيف 35 ألف خريج إضافي سنوياً، لذلك لا بدّ من تشجيع العاملين في القطاع الحكومي على البحث عن بدائل للوظيفة الحكومية، علما بأن أكبر عقبة أمام الإبداع وإصلاح التعليم نشرت أخيرا في «الجريدة» ضمن تقرير «الشال» تفيد بأن معدل الأجر الشهري للقطاع الحكومي للذكور 1888 دينارا، والإناث 1318 دينارا، في حين أن المعدل للقطاع الخاص للذكور 1567 دينارا، وللإناث 994 دينارا، رغم الكفاءة الأفضل والجهد المضاعف الذي يبذله موظف القطاع الخاص، ناهيك بمخاطر «التفنيش» في أي وقت. إن النهوض بالتعليم ضرورة يتطلب تحقيقها عودة الحاجة والدافع، باتّباع نظام جديد للتوظيف يعتمد على المنافسة المفتوحة واختبار القدرات وسلّم رواتب منخفض للتعيينات الجديدة، لجعل الوظيفة الحكومية آخر خيارات الطالب لا أولها. الاستعداد لمستقبل الكويت بلا نفط لن ينفع فيه التركيز على الحفظ وإهمال الفهم، ولا بدّ من فتح المجال لحرية الإبداع والتدريب على مهارات تقييم الأفكار والحُكم عليها. إننا بحاجة إلى سوق عمل غير حكومي يستوعب التخصصات كافة، سواء كانوا خريجي جامعة، ثانوية أو متوسطة، ويدعم الطموحين ذوي الأفكار الإبداعية، وهذا ما سيتم تغطيته في الجزء القادم والأخير، بإذن الله.
مشاركة :