إذا دخلتَ إلى مكتب سليمان فرنجية رئيس تيار المردة في بنشعي فسترى على الجدار صورتين؛ الأولى لجده سليمان مع حافظ الأسد والثانية لفرنجية الحفيد مع الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز. وهذا توازن صعب حاول فرنجية ألا يخسره في مختلف العواصف التي هبّت على لبنان. لبنان أمام أزمتين اليوم، أزمة حكومة وأزمة رئاسة، لا أحد يستطيع الجزم في بيروت إن كانت الحكومة ستتشكل أولاً، أم أن كرسي رئاسة الجمهورية سيتم شغله برئيس جديد أولاً، وهذه الأزمة ليست جديدة على اللبنانيين، إلا أنها هذه المرة تتخذ طابعاً مختلفاً بوجود مرشح رئاسي وحيد يتفق عليه حلفاؤه كما يضطر خصومه إلى ذلك في الوقت نفسه. وقصر بعبدا لم يعد كما كان عليه قبل أن يسكنه الرئيس الحالي الجنرال ميشال عون؛ تغيّر الكثير، بدءاً من معنى الرئيس القوي الذي لاحت قوته تستوجب أن تكون مستمدة من تحالف عابر للحدود اللبنانية نحو المحاور الإقليمية، وتحديداً حين عمل عون لصيقاً بحزب الله وحركة أمل ومن خلفهما إيران، فأصبح الرئيس قوياً أكثر ولكن لبنان بات ضعيفاً أكثر. الرئيس المسيحي نفسه لم يعد كما كان، فاليوم ينظر اللبنانيون إلى موقع الرئاسة على أنه يجب أن يعود إلى كل اللبنانيين، وقد يكون الجالس على الكرسي مسيحياً مارونياً، لكنه إن لم يكن مستقل القرار الوطني فسيعود ضرره على الجميع، مسيحيين ومسلمين. والطائفتان تعرضتا لكارثة متواصلة بوجود رئيس ماروني – إيراني الهوى. اسم فرنجية مختلف عن بقية الأسماء المطروحة، لم يخف مرة واحدة ولاءه لـ8 آذار، أي السوريين وحلفائهم، ولم يجد نفسه مضطراً إلى خلع لبنانيته من أجل ذلك، بقي يناور من موقعه الماروني العربي، وهذا سوف يضمن له ما لم يستطع عون تحقيقه. الكابوس الاضطراري ● إشارة جعجع الأخيرة تبدو مفاجئة للجميع، حين دعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون في وجه فرنجية ● إشارة جعجع الأخيرة تبدو مفاجئة للجميع، حين دعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون في وجه فرنجية كانت مشكلته الكبرى هي في تيار عون، التيار الوطني الحر الذي يتزعمه صهره جبران باسيل، لكن الأخير تيقن أنه بعد جهد كبير فشل في إقناع أي طرف لبناني بأنه قد يكون مرشحاً يوماً ما لرئاسة الجمهورية، فلم يجد أمامه سوى خيارين، سمير جعجع رئيس القوات اللبنانية من جهة، وفرنجية خصمه العنيد من جهة ثانية، فاختار أقلهما مرارة. حتى وقت قريب كان فرنجية يوصف بكابوس عون وباسيل، ولكن لقاء حليفه فريد الخازن مع باسيل قبل أيام لعقد صفقة تناسب الطرفين بدأ يبعث بإشارات تنبئ بتغيّر في حسابات التيار العوني. ويبدو أن تلك التحولات بدأت تؤتي أكلها، خاصة بعد أن رجع الخازن إلى فرنجية بالجواب، وحزب الله الذي يريد رئيساً واضح الولاء لقوى 8 آذار وما يعرف بمحور المقاومة يرتب هذا كلّه عن بعد دون أن يظهر في الصورة، لأن مثل هذا الاتفاق لن يمرر فرنجية وحسب بل سيكفل إبقاء باسيل وتياره عند حجم معيّن لا يريد له حزب الله أن يتجاوزه. والرسائل التي بثها باسيل اليائس من الوصول إلى الرئاسة بدأت في ربيع هذا العام، حين وصف فرنجية بأنه “يبقى أصيلاً”، تمهيدا لما سيقوم به أمين عام حزب الله حسن نصرالله الذي دشّن سباق الرئاسة باستدعائه كلاً من باسيل وفرنجية ليخبر الطرفين بأن الوقت لم يعد مناسباً لاستمرار الخصومة بينهما، وأن ما يجمع بينهما هو تحالفهما مع حزب الله. الرئيس اللبناني المسيحي لم يعد كما كان قبل عون، فالمسيحيون والمسلمون معاً تعرضوا لكارثة متواصلة بوجود رئيس ماروني – إيراني الهوى والقرار نصرالله، وحسب ما تسرّب من تفاصيل الإفطار، لم يتوقف عند لحظة المصالحة وإذابة الجليد بين حليفيه، بل انتقل إلى مناقشة الاستحقاقات التي ستبرز بعد حسم موضوع الرئاسة. لكن أمين عام حزب الله طعّم لغته التوفيقية بنوع من التحذير غير المباشر حين قال “إذا لم يُنتخب فرنجية في الانتخابات الرئاسية المقبلة فقد لا تسنح له الفرصة مرة ثانية، بينما باسيل لديه فرصة في المستقبل”. وفي عبارة نصرالله تلك تنبيه مزدوج للجانبين، مع وعد منه يقطعه لباسيل بدعمه لاحقاً، وتطمينات منحه ما أراد حين عرض عليه أن يكون شريكاً لفرنجية في العهد، “شريكا كاملا” على حد تعبيره، مبيناً له أن هذا سيتيح له الوقت للنظر في موقع التيار الوطني الحر وأوضاعه الداخلية وإعادة تشكيله. ولم يتلق فرنجية الدعم من نصرالله وحده، ومعه باسيل هذه المرة، ولا في هذا التوقيت وحسب، بل كان قد حظي بدعم رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري في السباق الرئاسي الماضي قبل سبع سنوات، ومعه دعم وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وبالطبع دعم رئيس البرلمان وزعيم حركة أمل نبيه بري. ولديه الكثير من الحظوظ ليظفر بالدعم ذاته من هذه الأطراف كلها من جديد. مأزق مع الغرب ● فرنجية لم يتلق الدعم من نصرالله وحده، فهناك عديدون يفضلونه على غيره ● فرنجية لم يتلق الدعم من نصرالله وحده، فهناك عديدون يفضلونه على غيره إذا وجد الأوروبيون والولايات المتحدة أنفسهم أمام خيارين، بين فرنجية وبين باسيل، فسيكون باسيل الخيار الأسوأ، لغرقه في العلاقة مع المحور الإيراني إلى درجة يصعب فيها التفاهم معه على نقاط مشتركة، إلا أن فرنجية يخسر في هذا الجانب قليلاً بسبب تطويره لعلاقاته مع الروس، وهم اليوم على رأس قائمة الأعداء بالنسبة إلى الغرب. وزار باسيل روسيا للحصول على دعمها، والتقى بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونائبه ميخائيل بوغدانوف، وكانت أجندته تحفل بالمزيد من التوسع في تلك العلاقات، أما اليوم فقد بات هذا عبئاً عليه، وإن كان أقل تأثيراً من غيره من ناحية المميزات التي تتمتع بها شخصيته. الطرابلسي الماروني الذي ولد في أواسط الستينات انخرط في العمل السياسي منذ زمن الحرب الأهلية، وتولى قيادة المردة بعد عمّه روبير متكئاً على الصلة الوثيقة التي جمعت جدّه سليمان الكبير بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. وكان فرنجية الذي اشتهر بـ”سليمان الصغير” مرناً في تنفيذ سياسات الأسد الأب وما تم التوافق عليه في الطائف، سلّم سلاحه، وعُيّن عضواً في المجلس النيابي الأول بعد الحرب، وكان حينها أصغر نائب في البرلمان. وتولى الوزارة ثلاث مرات، وكلف بحقيبتَيْ الصحة والداخلية التي كان على رأسها حين حدث الاختراق الأمني الكبير وتسبب في اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. ولا ينسى اللبنانيون خروجه مرتبكاً على الشاشات ليحاول تبرير كيف حدث مثل هذا الانفجار الضخم في بيروت التي يشرف على أمنها بنفسه. فرنجية يحاول الحفاظ على صلات متوازنة مع الدول العربية، إلا أن علاقاته مع دول الخليح تحديدا لم تتعاف بعدُ من أزمة وزيره جورج قرداحي الذي اعتبره لم يخطئ في ما قال ويستعد اليوم لإطلاق حملته الرئاسية بين لحظة وأخرى كمرشّح أول، ومعها برنامجه الانتخابي، في توقيت حساس بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في لبنان. ومأزق مع العرب رغم محاولة فرنجية الحفاظ على صلات متوازنة مع الدول العربية إلا أن علاقاته مع دول الخليج تحديداً لم تتعاف بعد من أزمة جورج قرداحي، الوزير الذي تسبب في قطع العلاقات وسحب السفراء، بعد تصريحاته المؤيدة للحوثيين والمنتقدة لدور العرب في حرب اليمن. وقرداحي وزير محسوب على فرنجية، وهو صرّح أكثر من مرّة بأنه لم يطلب منه تقديم استقالته، رغم إلحاح كافة الأطراف على ذلك، ومن بينها البطريرك الماروني نفسه، لكن فرنجية بقي متمسكاً بقريبه قرداحي الذي اعتبر مطالبته بالاستقالة استهانة بالسيادة اللبنانية. آنذاك قال فرنجية “عرض عليّ قرداحي أن يقدم استقالته من بكركي ومن بعبدا، وأنا رفضت، لأن ضميري لا يسمح لي بأن أطلب ذلك من وزير لم يخطئ”. إلا أن فرنجية كان يستدرك دوماً ويقول “موقفنا من السعودية ومن الإمارات وكل الدول العربية والخليج واضح، ربما نتفق ونختلف معهم بالسياسة، ولكننا لسنا بحجم أن نتحداهم ونقف بوجههم”، وهنا مكسر العصا؛ فإذا كان الخلاف سياسياً فإن هذا وحده كفيل بجعل فرنجية خياراً غير مرغوب فيه للعرب، وإذا كان قرداحي لم يخطئ بنظر فرنجية فهذا يعني أن ما قاله قرادحي يطابق وجهة نظر المرشّح الرئاسي وهذا ليس مطمئناً للدول العربية التي تريد للبنان رئيسا عربياً بعد عون، لا رئيساً أكثر إيرانية من سابقه. وشهد الخريف الماضي مغامرة حسب وصف البعض، قام بها فرنجية؛ حيث أراد أن يستثمر بعض الأسهم في المعركة الرئاسية في سلة حزب الله، وكان ذلك اختباراً له أكثر مما هو ضغط وإحراج لقرداحي الذي بدا مثل حجر صغير في اللعبة، وها هو فرنجية اليوم يحصد ثمار تلك المغامرة مع حزب الله الذي فضله على باسيل. بين نصرالله وجعجع ● حزب الله مشغول هذه الأيام بأمور أهم بالنسبة إليه من الفوارق المارونية – المارونية ● حزب الله مشغول هذه الأيام بأمور أهم بالنسبة إليه من الفوارق المارونية – المارونية لكن حزب الله مشغول بأمور أهم بالنسبة إليه من الفوارق المارونية – المارونية، فلا هو مشغول بما جرى في قمة جدة، ولا بالحرب الروسية – الأوكرانية ولا بسواها، إنما يتركز اهتمامه على ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، ودور الوسيط الأميركي في المفاوضات آموس هوكستين الذي سوف يستأنف عمله بعد انتهائه من المشاركة في زيارة بايدن إلى المنطقة. وحتى يزيد من حرارة هذا الملف فقد هدّد نصرالله بشن الحرب في حال تمت المماطلة بترسيم الحدود مع “العدو”. كذلك يضع حزب الله نصب عينيه موضوع المساعدات الدولية المقررة للبنان وإطلاق صندوق فرنسي – سعودي، ورغم موقفه من الرياض إلا أنه يحرص على وصول المساعدات السعودية إلى لبنان عن طريقها. وطرق فرنجية إلى قصر بعبدا ليست ممهدة كما تبدو في الظاهر، غير أن انعدام البديل -باستثناء شخصية من خارج السياق- قد يجعل منه الخيار المفضّل للجميع وقد يمرّ. لكن شيئاً ما قد يحدث ويغيّر المعادلة كلها؛ فإشارة جعجع مؤخراً كانت مفاجئة للجميع، حين دعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون لمنصب رئيس الجمهورية، وهذا يعني أنه سيدفع به كمرشّح للمعارضة في وجه فرنجية.
مشاركة :