قد يربط البعض من الناس فكرة عقوق الأبناء بفشل الآباء ويجعلها كالقاعدة : ( العقوق مقابل الفشل في التربية ) . ورغم أن هذه المعادلة قد تحوي جزء من الحقيقة باعتبار المسؤولية والتبعات والنتائج ؛ إلا أنها لا تمثل الحقيقة كاملة ! لأن هناك ومن وراء الأسباب قدر خفي وحكمة ربانية تتعلق بمسألة الهداية والتوفيق والضلال وهي خارجة عن نطاق البشر وعن إمكانياتهم المحدودة ؟! وحتى لا نشرق بكم كثيرا في هذا الجانب وحتى تتضح الصورة سوف أستعرض معكم باختصار قصة والد صالح مع ولده العاق وماذا كانت النهاية ! وليس هو مجرد والد صالح بل هو نبي مرسل وهو نوح - عليه السلام ! وكونه نبي فهذا يعني أنه من المصطفين الأخيار عند الله - عليه السلام - ! وهذا يقتضي تبعا أن يكون قدوة صالحة ليس فقط لأهله بل للناس الذي بعث فيهم ؟! فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم خير مربين ومعلمين . ولكن ومع ذلك فما حدث له مع ولده ( كنعان ) شيء مختلف وقدر محتوم خارجا عن السياق والسيطرة البشرية ؟! ولذلك لما تضرع نوح - عليه السلام - إلى الله في نجاة ابنه من الهلاك وبحكم فطرة وشفقة الأب وعطفه وحنانه على ولده ! جاءه الرد حاسما وجازما فقال الله تعالى له : { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }. والمعنى أن القرابة المنجية من العذاب هى قرابة الإيمان لا قرابة النسب ؟! وحتى يكون نبي الله نوحا - عليه السلام - بل وكل والد مستشعرا لقضية الهداية والتوفيق وأنها لله وحده كما قال تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ }. وأنه مهما بلغ حرصنا وحبنا وشفقتنا على أبنائنا فإننا لا نستطيع هدايتهم ، هداية التوفيق والرضى من الله ! اللهم إلا ما كان في مقدورنا من هداية الدلالة والارشاد والتوجيه ! مصداق ذلك قوله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . ولذلك نجد صعوبة واجحافا في ذلك التصور الذي يربط عقوق الأولاد بفشل الآباء في التربية ؟! فقد يكون الأب قد بذل كل جهده ووقته في التربية والتعليم ولكن الله له مشيئته سبحانه ؟! ولذا ينبغي لكل والد أو مربي أن يستشعر قدرة الله وإحاطته بشؤون خلقه ومصائرهم وأنه وحده سبحانه هو المتصرف في مآلاتهم !! فإذا علم كل أب هذا لم ييأس ولم يضجر ولم يحزن ، بل سوف يستمر في التربية والعطاء في حدود ما هو واجب ومقرر عليه شرعا وعقلا ! ولقد كان نوح - عليه السلام - يغاير وينوع في أساليب وطرق الدعوة والتربية ويتلطف مع ابنه غاية اللطف كما قال تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } . ولكن الابن لم يمتثل لنصح أبيه ورد عليه قائلا : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} . فخاطبه نوح قائلا : { قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ }. وقد مكث فيهم نوحا دهرا ؟! وهكذا كما أسلفنا فقد ينوع الأب في أساليب التربية والتوجيه ، فينصلح له بعض الأبناء وبعضهم يكون مختلفا بعقوقه وتمرده !! وتلكم من سنن الله في خلقه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }. طبعا لست في هذا المقال المختصر بصدد الحديث عن أثر التقصير أو التفريط أو حتى الخطأ في أساليب التربية التي قد تنعكس على الأبناء في نتائجها ومخرجاتها ! ولكن فقط لنفهم ونتصور الفارق الكبير بين هداية التوفيق من الله ، وهداية الدلالة من الإنسان ، وأن نفرق بين ما هو واجب على الآباء وبين ما هو حق خالص لله فيما يقضيه ويقدره في علم الغيب !! ولكي ننصف الآباء لاسيما من يشعر منهم بأنه اجتهد وضحى من أجل تربية أبنائه ولكنه قد يصطلي من بعضهم بنار العقوق والتمرد وهذا لا يعني الفشل ؟! هذا مع الاستمرار في بذل كل الوسع في هدايتهم وتربيتهم والصبر عليهم والدعاء لهم بالهداية والتوفيق وعدم اليأس من صلاحهم كما قال تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا } . اللهم اهدنا وأولادنا وأصلح لنا شأننا كله .. بقلم / ادريس أبكر
مشاركة :