العربي أم الاحتفاء بلغته؟ - د. إبراهيم المطرودي

  • 12/24/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

اللغة منتوج بشري، ولا تفاضل بين اللغات من حيث هي؛ لأنها هياكل جامدة، تُشبه، كما قدّمت، أدوات البناء وأسبابه، وإنما التفاضل والتغالب والتفاخر في صنائع الإنسان فيها، وإنجازاته من خلالها الإنسان هو العملة الرئيسة، والمفتاح لكل تقدم، ولو تأملنا التأريخ الإنساني، وقيام الحضارات وزوالها؛ فلن نُبصر للدين أثرا دون الإنسان، ولن نجد للغة قيمة دونه أيضا؛ فهو النموذج الماثل أمام العالمين الذين يشتاقون إلى معرفة دينه، ومدى فاعلية لغته، وهو المعبّر لهم عنهما، ولن تستطيع إقناع الآخرين بالنظر في دينك، والبحث في مزايا لغتك المزعومة؛ لأنهم بإيجاز شديد ينتمون إلى دين آخر، ولغة أخرى، ومن الصعب، بل من المستحيل، أن يخوضوا تجربة كهذه؛ ليصدّقوك في دعوى لم تُمثّلها أنت، وحال لم تستفد منها! وهم لا يختلفون عنك، فهل تقبل أن تقرأ عن دينهم؛ لتدين به لله تعالى، أو تدرس لغتهم؛ لتتخذها لك لسانا، وتتعجب من صنيعة أهلها بها؟ وحين يغيب دور الإنسان؛ يغيب الدين، وتغيب اللغة، وهذه حالنا اليوم، يُحاول كثيرون، فيما يُعرف باسم يوم اللغة العربية العالمي، أن يتحدّثوا عن إمكانات اللغة، وقدراتها الهائلة نحوا وصرفا ومعجما، ويُظهروا للناس ما تركه أهلها الأولون، وأنجزوه في بنائها، وينسون أن اللغة العربية، في معظم عناصرها، لغة عرب الجاهلية، وهي نظام لغوي سابق على الدين، ومتقدم على نزول القرآن الكريم، وما في القرآن الكريم، ولا في حديث رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، خروج عن هذا النظام الموروث عن عرب الجاهلية، ويُغني من يُحاول الإنكار أن يستحضر ما فعله النحويون في خروج بعض القُراء عن هذا النظام، ويستذكر كيف فسّر البلاغيون بلاغة الحديث النبوي مثلا. اللغة بناء إنساني صِرف، لا دخل للدين فيه، ولا أثر للرسالات السماوية عليه؛ فالدين الإسلامي، وكذا غيره من الأديان، تبليغ للرسالة السماوية بلغة الناس الذين جاءت الرسالة لهم، ووردت من أجلهم، وتجري على نظامهم اللغوي نحوا وصرفا ودلالة، ولو خرجت عن النظام، وتعدّت سُنن المقصودين بالدعوة في لغتهم؛ لكان ذلك مخالفة صريحة لمقالة بلاغية شهيرة، وهي مقولة إنسانية وليس عربية فحسب، وهي قولهم: لكل مقام مقال، ولكان في هذا الخروج مطعن على الرسالة وصاحبها، ولكان فيه إبهام وإيهام على من جاءت الرسالة؛ لإنقاذه، وإنفاذ الوصايا الإلهية إليه. وما يُذكر في هذا السياق، ويزيد ما ذكرته سلفا قوة ووضوحا، التفسير الأشهر للإعجاز القرآني، وهو تفسير عبدالقاهر الجرجاني الذي قال: إن الإعجاز يكمن في النظم، وقال عن النظم:" أن ليس «النّظم» شيئا إلّا توخّي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم" (دلائل الإعجاز). ونحو العربية، بكل مستوياته وأحكامه ووجوهه، كائن قبل نزول القرآن الكريم، ومكتمل قبل بعثة رسولنا عليه الصلاة والسلام. يرجع الناس في فهم القرآن الكريم إلى لغة العرب، وبها يُفسّرون معانيه، ويفهمون مقاصده، وبحال نظامها النحوي والصرفي يفسّرون ما به من ظواهر، وكذلك كانوا أيام نزول القرآن الكريم؛ فاللغة التي يُفسر بها القرآن، وتفهم ظواهره من خلالها، متقدمة عليه زمنا، ومكتملة قبله بناء، ومن يرى للغة العرب بعد نزول القرآن دورا في فهمه، وأثرا في تفسيره؛ فعليه أن يُقرّ أن اللغة لم تكتمل قبل نزوله، وأن الناس احتاجوا مثلا إلى العصر الإسلامي والعصر الأموي، وما فيهما من لغة العرب؛ حتى يفهموه، ويدركوا معانيه، ويلتمسوا طريقا إلى تفسير إعجازه. اللغة أثر من آثار الإنسان، وثمرة من ثمار اتصاله بمحيطه، من ظروف المكان والزمان، ولا تحمل في نفسها أي مزية، تجعلها نموذجا خارقا للعادة اللغوية عند البشر، وإبداعا غير مسبوق فيها، ومن يسعى إلى إخراج لغتها بهذه الصورة، ويرسم عنها هذا التصور؛ فهو غافل تماما عن أنّ الإبداع اللغوي صفة في الأفراد المنتمين إلى اللغات كلها، وهو قيمة فردية، ومزية خاصة، وليس للغات فيها فضل سوى توفير مادته الأولية؛ فاللغات كمواد بناء المساكن؛ يُخرج منها إنسان إبداعا، يسر الناظرين، ويروق المشاهدين، ويبني منها آخر، ما تعافه النفس، وتتنكر له الأذواق؛ تلك هي قصة اللغة، وإنما القيمة كل القيمة في الإنسان الذي يصوغ منها المبتدعات، ويُؤلف بها بين الابتكارات، ويشْدهُ بما فيها القراء، والفخر كل الفخر بهذا الإنسان الذي انتفعت منه لغته، حين صاغ عبر نظامها اللغوي المبدعات الفكرية والفنية، وآنق بما شكّله منه عقول الناس وأذواقهم، والناس من حولنا هذه الأيام، نحن العرب المعاصرين، يبحثون عنا، وعن دورنا، ولا يهتمون بما فعله أسلافنا، وأتوا به؛ إذ لكل عصر منتوج، ولكل عصر خطاب، وذاك معنى مقولتنا الشهيرة: لكل مقام مقال؛ فسؤال الأمم من حولنا: أين مقالكم الذي يُناسب المقام الجديد الذي تعيشونه، وتُشاركون البشر في صناعته؟ أين أبنيتكم الجديدة، الفكرية والفنية، التي صغتموها بلغتكم التي تتحدثون عنها، وتحتفلون بيومها العالمي؛ فذاك هو ما يسأل عنه الناس اليوم، وهو ما يجذبهم إليها، وإلى ثقافة أهلها؟ اللغة منتوج بشري، ولا تفاضل بين اللغات من حيث هي؛ لأنها هياكل جامدة، تُشبه، كما قدّمت، أدوات البناء وأسبابه، وإنما التفاضل والتغالب والتفاخر في صنائع الإنسان فيها، وإنجازاته من خلالها، ودعوى تفضيل لغة من حيث هي على غيرها، دعوى إنسانية قديمة، نسيتها الأمم المدركة لقيمة الإنسان وأفعاله، وبقينا نحن نرددها، ونخدع أنفسنا بها عن غيرها، ونُغطي بها ضعفنا وعجزنا وتضعضع حالنا، ونطمع في إقبال الناس علينا بصنيعة آبائنا، وإرثهم بيننا، وليس غريبا أن ينساق عامة العرب إلى هذه الحالة، ويستحوذ عليهم التفاخر بمثل هذا؛ لكن العجيب أن يقوم بهذا، ويضطلع به، وينهض بخطابه، أكاديميون يدرسون اللغة، ويخوضون في بحوثها، ويطّلعون على الدراسات الحديثة في اللغات. هذا الذي يجري عندنا في اليوم العالمي للغة العربية من تفضيل العربية على غيرها، والبحث عن ذلك في جوانبها المختلفة، خطَر في بال أبي محمد علي بن حزم، وحسم أمره قائلا:" وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له؛ لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة..، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات؛ لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب، أو نقيق الضفادع. قال علي: وهذا جهل شديد؛ لأن كل سامع لغة ليست لغته، ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس، ولا فرق. وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات؛ لأن بها كلام الله تعالى. قال علي: وهذا لا معنى له؛ لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه" (الإحكام في أصول الأحكام 1/ 35 وما بعدها). يقال لمن يُفضّلون العربية على غيرها، ويتمحّلون في تسويغ هذا الخطأ، وينكبون عليه؛ كأن ليس لهم من المفاخر إلا هو، ما قاله ابن حزم في حق جالينوس حين قال:" وهذا جهل شديد"، ويقال لأولئك الذين يربطون بين الإسلام والعربية: إن العربية صنيعة الجاهليين، وتَرِكتُهم، وإذا كان عدد غير يسير من المتحدثين عن تفضيل العربية، هم من ذوي الخطاب الديني الذي يرى أنّ دين الإنسان، وكذا معتقده ومذهبه، ينفذ إلى لغته، ونتاجه، وثمار عقله، ويُكثرون على الناس الحديث حول دسّ السم في العسل؛ فعليهم أن يفطنوا إلى أن هذا الداء، وهذه العلة التي لها يُحاربون المخالفين، وبسببها يقفون بالمرصاد لكل العلوم، ويرتابون منها؛ خوفا على دين الناس وإيمانهم، كائنة في العربية، وموجودة فيها، فما زال العرب يقرأون تراث امرئ القيس، ويتغنّون بشعر طرفة وعنترة، ويطوفون خلف خطب الجاهليين، يلتمسون براعة الأسلوب، وجزالة العبارة؛ فهلّا خافوا على القراء منهم، ومنعوهم من تراثهم؛ حذرا على دينهم، وحفظا لإيمانهم، ونادوا بالناس بعد ذلك بأن عربية الجاهلية، وهي في الحقيقة العربية كلها، غير صالحة للناس، ومفسدة عليهم دينهم؛ لما تشتملها من خرافات، وتحتوي عليها من عادات جاهلية، وما من داعٍ لتفضيلها بعد المعرفة بصناعة الجاهليين لها الذين يقومون بدسّ سمهم في عسلهم اللغوي! فلنترك هذه اللهجة، ولنبتعد عن هذا المنطق، ولننشغل بمقامنا المعاصر، ونُعدّ له ما يُضاهيه من مقال، وليكن لنا في امرئ القيس قدوة حين قال: فدَعْ عنك شيئا قد مضى لسبيله ولكنْ على ما غالَكَ اليومَ أقبلِ

مشاركة :