أعدى أعداء الوسطية من يُحرّم على الناس التفكير، ويمنعهم منه، وقصارى حجته على ما يفعله، ويُنادي بالناس إليه، أن هذا هو رأي أسلافه، ومذهب متقدميه، وليس للناس عنده عن ذلك من محيص، ولا لهم عنه من مهرب.. لو جمعنا المسلمين الذين آمنوا برسالة محمد، عليه الصلاة والسلام، أولهم وآخرهم، في صعيد واحد، وطرحنا عليهم هذا السؤال: مَنْ منكم أيها المسلمون يُمثّل قول الله، تعالى، (وكذلك جعلناكم أمة وسَطاً)، ومن منكم يرى في نفسه رأيه وعمله، قوله وفعله، أنه النموذج الأتم، والصورة المثلى لهذه الوسطية المذكورة في كتاب الله عز وجل؟ ومن منكم ينهض بهذه الوسطية، وتلك الخلة، مع إخوانه المسلمين الذين تفرّقوا شيعاً، وغدت بهم الآراء الدينية ذات اليمين وذات الشمال، وفرّقتهم منذ قرون إلى طوائف متناحرة، وجماعات متطرّفة، لا ترى لغيرها حق الوجود، ولا تسمح لمخالفها بالظهور؟. لو طرحنا هذا السؤال على المسلمين لادّعى أصحاب كل مذهب أنهم هم الوسط، وهم الممثلون لهذه الصفة المذكورة في كتاب الله تعالى، وأنهم يجرون عليها في نظرتهم إلى أمم الأديان الأخرى، وينظرون من خلالها إلى المسلمين المخالفين لهم في المذهب، والمباينين لهم في الطريقة، كلٌّ يستطيع أن يفهم الآية الكريمة وفق حاله ورأيه، وكل يملك قدرة على أن يتخذ منها درعاً يلبسه، وشعاراً يتزيّى به، ويُروّج لهذا في خطابه، ويُظهر نفسه، ومذهبه وطائفته، ممثلاً للدين في وسطيته مع المخالفين له في المذهب والدين. هذه الدعوى التي يدّعيها كل مذهب، وتراها في نفسها كل طائفة، هي الداعية إلى التطرف، وهي رأس هذا الأمر كله تقريباً؛ لأنها حالت دون أن يُراجع أصحاب كل مذهب مذهبهم، ومنعت كل طائفة من أن تتفقّد ماضيها وأهله، وصار المسلمون كلهم تقريبا يأخذون في موقفهم من المخالفين لهم بنصيب من التطرف غير قليل، والعلة وراء هذا كله أنهم اكتفوا في البحث عن الوسطية، ومعنى الوسط، بما قاله أسلافهم، ومال إليه متقدموهم، وصارت حقيقة التوسط ملكهم، بعد أن كانت ملك أسلافهم، وفي جوّ مملوء بهكذا تصورات، وثقافة مُطعّمة بمثل هذه الرؤى، يستحيل البحث الحر، وينعدم النظر الجديد، ومتى غاب هذان، واستشعر الناس منهما الخطر، وخافوا منهما على أجيالهم؛ فأنت، لا محالة، تعيش في ثقافة يكسوها التطرف، وتُخيّم عليها ثقافته، والتطرف، على هذا المعنى، ليس سوى الامتناع عن البحث، والتصدد عن المراجعة لكل ما ورثه الإنسان من رواية وقول ونظر، وكيف يُراجع المرء نفسه، ويُحاكم منقولاته، وينتقد مأثوراته، وهو يرى أسلافه الأولين مُتحلّين بكل صواب، وحائزين على كل حقيقة، وممثلين خير تمثيل للدين ووسطيته؟ لا تكاد الآن تسمع أحداً إلا وهو يستنكر غلق باب الاجتهاد، ويستوحش من هذه الآفة العظيمة، ويرى ذلك من غلطات عصور التقليد والجمود، وزلات أهلها الكبار، غير أن هؤلاء الناس ما إن تطلب منهم مراجعة آراء أسلافهم، وتفقّد مواقفهم، والنظر فيها؛ حتى تُصيبهم الرجفة، وتُدركهم الحميّة، ويعودوا من باب الدفاع عن الأشخاص إلى التقليد من جديد، ويُغلقوا باب النظر في ذلكم الحين، وكانوا قبلُ يعجبون من مُغلقه، ويُلقون عليه اللوم كله فيما جرى للأمة، وما انتهت إليه في أعصارها المتأخرة. التطرف في الموقف هو الذي حوّل الأمة إلى حالها التي تشتكي منها الآن، وهو الذي حرّم البحث الحر، والنظر المستقل، الضامن للوصول إلى الوسط والوسطية، وأصبح الناس يُهرعون إلى ما ورثوه، ووجد آباءهم عليه، ويصدّون عن البحث والتفكير فيما هم عليه، ويفرون منه، ومن فقد البحث، وأهمل النظر؛ آثر التقليد والجمود، ومن كانت هذه حاله فأنّى له أن يعرف الوسطية، ويقترب منها، ويتحلّى بها؟ الوسطية منهج، وليست مذهباً، ولا معنى جامداً، وقالباً جاهزاً، يُطلب من الناس أن يقبلوه، ويُرغموا أذهانهم على التشكل حسبه؛ إنها البحث الدائم عن التوسط في تأريخ الإنسان الذي يؤثر التطرف، ويميل إلى الشطط، ويُخيّر الناس في زمنه بين رأيه والضلال، أو رأيه والنار، وأعدى أعداء الوسطية من يُحرّم على الناس التفكير، ويمنعهم منه، وقصارى حجته على ما يفعله، ويُنادي بالناس إليه، أن هذا هو رأي أسلافه، ومذهب متقدميه، وليس للناس عنده عن ذلك من محيص، ولا لهم عنه من مهرب؛ فهم إما إلى وسطيته مقبولون، وإما على التطرف واللجاجة عازمون، فهو الوسط بين المتطرفين، والمصيب بين المخطئين، يدفع فكرة البحث، ويأبى دعوة النظر، ويُوجب على الآخرين أن يأخذوا بما عنده، ويستنّوا بسنته، وليس لهم عليه أن يطّلع على ما عندهم، ويتأمل ما في أيديهم، ومع سعيه لتجاهل المخالفين، وإصراره على نبذ ما عندهم؛ إلا أنه ما زال مصراً على دعوى الوسطية، وتمثيل الإسلام فيها. يقول الطبري في تفسيره (2/ 626) عن هذه الآية الكريمة: "وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدار.. وأرى أن الله تبارك وتعالى إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءه، وكذبوا ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوساطها". نحا الطبري بالآية إلى غاية واحدة، وهي أن الله تعالى أراد بها أن يصف الصحابة بالتوسط بين اليهود والنصارى، فآثر أن يقرأها من خلال هذا الصراع الديني بين المنتمين للديانات الثلاث، وكأن غايتها الأخيرة هي أن تدلّ على أن الصحابة، المعاصرين للنبي، كانوا هم ممثلي هذه الوسطية، والآخذين بها؛ فالله لم يدعهم فيها إلى منهج ومبدأ، قائم على الوسطية، وإنما أراد سبحانه أن يمتدح توسطهم، ويُثني عليه، وهكذا تكون الآية مدحاً لعالم الأشخاص، وثناء عليه، وينبثق من هذا المعنى أن يلتمس المسلمون من بعدهم طريقتهم، ويأخذوا بما تركوه لهم، صواباً كان أم خطأ، وتلك هي حالنا اليوم؛ إذ أصبح الصحابة، بناء على هذه النظرة التي قادت الطبري لفهم الآية هكذا، هم المرجع، وليس النص، وبهذا كان أول تأسيس للتقليد هو من خلال ربط هذه الآية بجيل من أجيال الأمة، وتُرك النص والدين، والنبي المرسل؛ إذ أصبح لدينا نموذج بشري، يُمثل الدين ظاهراً وباطناً، منهجاً وفكرة، ولم تعد الحاجة داعية إلى قراءة النص من جديد، وتأمل الدعوة وصاحبها مرة أخرى؛ فها هو القرآن الكريم يصف الصحابة بأنهم هم الممثلون للوسطية، والسائرون عليها، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد ظهور البينة إلا المراء والجدل؟ ربما يبدو المعنى الذي أطرحه، وهو أن الوسطية منهج، وبحث حر، ودعوة دينية باقية، غير جدير بالقبول؛ حتى بعد ربط فهم المفسرين للآية بتدشين التقليد، وتأسيس الارتباط بعالم الأشخاص بعيداً عن النص، وصاحب الدعوة، عليه الصلاة والسلام، وهذا يدعوني إلى تقوية ما أذهب إليه في معنى الآية الكريمة بالآتي: أولا: ان هذا التفسير يتجاهل الدين ودعوته، ويصدّ عن الداعي إليه، والممثل الحقيقي للوسطية والتوسط، ويتجه إلى جيل من أجيال أمة الإسلام، وكان الأولى أن تُجعل الوسطية صفة للدين، وخلة في الداعي إليه، وأما الناس بعد هذين فبشر غير معصومين، لا في تمثيل الدين منهجاً، ولا في تمثّله فكرة ورأياً. وثانياً: أن الآية تتحدث عن الأمة، ولا يُشكل الصحابة من أجيال الأمة شيئاً مذكوراً من حيث العدد، ومن يربط الوسطية بالصحابة يغفل عن أن الأمة في مراحل تأريخها كلها منتظر منها أن تتمثّل هذه الوسطية، وتسير عليها، وتبحث عنها بعد أن اختلفت الأزمان، وتنوعت المجتمعات، وتكاثرت الآراء والرؤى، وتفاقمت النظريات والأفكار. وثالثا: أن حديث الآية عن الأمة، وهي أمة الاستجابة في كل زمان ومكان، وهي أمة اختلفت، وتفرّقت، وتشعّبت مذاهبها، وتكاثرت نحلها، ولم يعد من الحكمة في جمعها، وتوحيدها، وائتلافها، إلا أن تُدعى إلى الوسطية منهجاً، والوسطية بحثاً حراً، فتستأنف الدرس الحديث من جديد، وتبدأ بالبحث في تركة الأسلاف؛ لعلها أن تعثر على ما يجعلها وسطاً بين المختلفين في هذا العصر، ووسطاً بين أسلافها الذين قضت دهوراً من حياتها، وهي رهن ما نقلته عنهم، وضحية من ضحاياه في أحيان كثيرة، وحينها تصبح الوسطية منهجاً، قوامه البحث الحر، والنظر المستقل؛ لأن الله تعالى أرادها دعوة لأجيال الأمة كلها، فلم يرد سبحانه بقوله أن يصف جيلاً من الأجيال بها، وإنما ساقها مساق الخبر عن الأمة جمعاء (جعلناكم أمة وسطا)، للتأكيد على أن هذه الأمة يُنتظر منها أن تُمثل هذه الوسطية، وتتصف بها؛ حتى كأنها أضحت جزءاً منها، وخلة من خلالها الراسخة فيها.
مشاركة :