نقف أحيانا عند مواقف محرجة نجد أنفسنا مضطرين إلى الحديث عن كتب لم نقرأها، يتناولها كتاب بعنوان رنان "كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟" لمؤلفه الفرنسي بيير بايار، الذي يرى بأنه من الممكن جدا أن يخوض أحدنا نقاشا محتدما عن كتاب لم يقرأه، خصوصا لو كان محاوره لم يقرأ الكتاب هو أيضا. ويجيب الكاتب عن مجموعة من الأسئلة التي تنتاب كل قارئ، على غرار، هل يبقى الكتاب الذي قرأناه يوما ثم نسينا كل ما فيه - أو جل ما فيه - كتابا قرأناه؟ وكيف نتغلب على المواقف المزعجة المتعلقة بنسيان الكتاب وشعورنا نحوه؟ تخفيفا من الشعور بالذنب صاحب الكتاب أديب ذكي، وهو أستاذ الأدب في جامعة باريس سان دوني، ومحلل نفسي له عديد من الكتب المثيرة للجدل، التي يجسد فيها رؤية لأمور غير تقليدية بل هادمة للتقاليد، حسبما يرى مترجم الكتاب غسان لطفي، الذي قال في مقدمته إن الكتاب يستحق فعلا عناء قراءته. فبايار كتب "من قتل روجر آكرويد؟" ردا على رواية أجاثا كريستي "جريمة قتل روجر آكرويد"، وفيه يعيد فتح التحقيق ويفند استنتاجات المحقق البلجيكي الشهير هيركول بوارو، وكذلك كتابه "تحقيق عن هاملت" الذي يفعل فيه الشيء نفسه مع ما يسميه أحد أقدم ألغاز الأدب العالمي. يحاول الكاتب أن يخفف من حالة الشعور بالذنب العميق والجارف، والإحباط الذي يرافق حالة اليقين عن معرفة عدد الكتب التي لم نقرأها، وربما لن نقرأها أبدا، حيث ينتقد بايار الفصل الصارم بين القراءة واللاقراءة باعتبارهما حالتين متمايزتين تماما، ليقول إن ثمة طيفا كاملا من الدرجات بين هذين الحدين، كأن نتصفح الكتاب مثلا أو نستعين بما يقوله الآخرون عنه. نحيا مع الكتب يحلل لنا مترجم الكتاب نفسية بايار، ولم اختار أن يؤلف كتابا كهذا؟ هل أراد أن يبرر للشباب عزوفهم عن القراءة؟ وينقل لنا عن لقاء لبايار جمعه بالفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو في مكتبة نيويورك العامة، وأكد فيه أن كتابه هو "قصيدة في حب الكتب والقراءة، ما أقوله للشباب هو تعالوا إلى الكتب واسلكوا إليها سبلكم الخاصة لكي تبنوا مكتباتكم"، حيث لا يدعو إلى التخلي عن القراءة التقليدية للكتاب من دفته إلى دفته، بل يدعو إلى التخلي عن فكرة أن هذه الطريقة في القراءة هي الوحيدة الممكنة. ويفند بيير بايار الفكرة المسلمة الضمنية التي تقول إنه يجب عليك أن تقرأ الكتاب لكي تتحدث عنه بشيء من الدقة، فمن الممكن جدا أن تخوض نقاشا محتدما عن كتاب لم تقرأه، إذ يكفي أحيانا أن نقرأ أو نسمع ما يقوله الآخرون أو يكتبونه عنه. "كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟" صدر في 2007، ثم ترجم إلى لغات عدة، وأثار في كل مرة زوبعة وحفاوة من النقاد، وهو الذي يتعمد الاستفزاز والإثارة في كل مرة، فقد أصدر سابقا كتابه "كيف نحسن الأعمال الأدبية الفاشلة؟"، ويرى أن الأعمال الفاشلة تكشف عن جزء من آليات العبقرية، أي عبقرية مؤلفيها الذين كتبوا أيضا مآثر عظيمة، وكتابه الآخر "موت القراءة" الذي أراد من خلاله أن يدفع الناس لأن يحيوا مع الكتب بدل قراءتها فقط. النظرة الشمولية يقدم الكاتب سلسلة من الوصايا البسيطة التي جمعها طوال حياة عاشها قارئا ولا قارئا، منها فكرة "النظرة الشمولية"، وتتناول الروابط والصلات التي تربط الكتب في مجال واحد، مثل المسؤول عن حركة النقل بالسكك الحديدية وعليه أن ينتبه إلى العلاقات بين القطارات، أي إلى ما بينها من تقاطعات وصلات لا إلى ما يحمله هذا القطار أو ذاك، تماما مثل أمين المكتبة الذي لا يقرأ أي كتاب، لكنه يهتم كثيرا بالكتب على الكتب، أي بالفهارس. فالمثقفين يعرفون - وفقا لهذه المنهجية - أن الثقافة هي أولا مسألة توجه، ويرى أن المثقف لا يعني أنه قرأ كل الكتب، بل إنه يعرف كيف يجد طريقه في مجموع الكتب، فما يهم في هذه الحالة في كل كتاب هو الكتب التي بجانبه، والقدرة على تحديد موقعه. ويضرب بايار مثلا بأنه لم يقرأ في حياته رواية يوليسيز، للكاتب الأيرلندي جيمس جويس، ويجهل مضمون الكتاب إلى حد بعيد، يجهل مضمونه بالطبع لا موقعه، لكن مضمون كتاب هو إلى حد بعيد موقعه، بحيث لا تعوزه الحيلة أبدا وهو يخوض نقاشا ما في أن يتكلم عنها، لأنه قادر على تحديد موقعه بالنسبة إلى الكتب الأخرى تحديدا دقيقا نسبيا، ويعلم أنه استئناف للأوديسة، وترتبط بتوجه تيار الوعي، وأحداثها تدور في دبلن في يوم كذا، لذا فكثيرا ما يتناول الرواية في محاضراته، دون أن يطرف له جفن. ويضيف بايار بأنه يكفي لأي مثقف فضولي أن يقرأ عنوان أي كتاب أو أن يلقي نظرة على غلافه لكي تتداعى في ذهنه سلسلة من الصور والانطباعات التي سرعان ما تتحول إلى رأي أولي، وهكذا فإن مجرد لقاء عابر مع كتاب ما حتى إن لم يفتحه أبدا قد يكون بالنسبة إلى القارئ بداية لعملية تملك حقيقية، ويمكن القول إنه حالما يحدث اللقاء الأول بيننا وبين كتاب نجهله فهو لا يعود مجهولا. الكتب التي نسيناها يقول المثل العربي الشهير "آفة العلم النسيان"، وهو ما يتطرق إليه الفرنسي بايار حينما يقول إن هناك لحظة يصبح فيها القارئ كأنه لم يقرأ الكتاب، ليلحق بركب اللاقراء، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه في مأمن من النسيان، بما في ذلك أكبر القراء، ومنهم مونتين أحد أهم الكتاب الفرنسيين في عصر النهضة. كانت الكتب تفلت من ذاكرة مونتين، ولعجزه عن التذكر ابتكر نظاما عبقريا في وضع الملاحظات والحواشي في آخر الكتاب، وصار بإمكانه أن يستعيد الرأي الذي كونه عن الكاتب وكتابه عند القراءة، ولهذه الحواشي مهمة طمأنته أنه قرأ حقا الكتب التي ترك فيها الملاحظات، ودليلا على أنه مر من هناك ولعله يسترشد بها في فترات النسيان. لا مكان لكلمة «لم أقرأه» في الحياة الاجتماعية، قد يصادف القارئ موقفا مرعبا يجد البطل نفسه أمام قاعة مليئة بمعجبين ينتظرون منه بفارغ الصبر أن يقول رأيه في كتب لم يقرأها، ومن أكثر المهن تعريضا لذلك هو الأستاذ، فمعشر الأساتذة مضطرون إلى التعليق على كتب لا يملكون الوقت الكافي لقراءتها، ولا الرغبة في ذلك، ويرى الفرنسي بيير بايار أن القاعدة الأولى والأهم هو ألا تخجل بشأن ذلك، بل افرض أفكارك ورأيك حوله، فما يسهل ذلك هو أن الكتاب ليس شيئا ثابتا حتى إن ربطناه بخيط ملطخ بالحبر، فلن يوقف ذلك حركته. فالكتاب يتأثر بكل ما يقال عنه وحوله، ويتغير ويتبدل، ولو لمدة حديثنا عنه، وهذه الحركية التي يتميز بها الكتاب هي الوجه الكبير الثاني من أوجه التردد والشك الذي يسم عالم المكتبة الافتراضية، لكن بايار يأبى إلا أن يكون أستاذا عالما بكل شيء، لا مكان في قاموسه لكلمة "لم أقرأه"، لتشكل نصائح بايار طرحا مستفزا وطريفا في الوقت ذاته، وتجديفا عكس التيار.
مشاركة :