أجواء الكتابة وطقوسها تختلف بين كاتب وآخر، كما تختلف فصول السنة في كتاب الطبيعة. ولكل موسم إبداعي أوانه ومزاجه وأجواؤه، وكأن الكتابة هي التي تفرض وقتها ومكانها ومزاجها على المبدع. وطقوس الكتابة والإبداع المعززة والمحفزة لهما تطرح أكثر من سؤال على المبدعين أنفسهم، ولدى النقاد المثمّنين للإنتاج الأدبي بمختلف أشكاله، وكذلك جمهور المتلقين المستهدف في النهاية بأي نص أو عمل إبداعي. ولعل أول تلك الأسئلة هو ذلك المتعلق بطقوس الكتابة نفسها، ومتى تكون أفضل وأجمل وأكمل، وفي أي لحظة من لحظات يوميات المبدع. ومن الأدباء من يفضل الكتابة في أجواء معينة يعتبرها أكثر تحفيزاً وإلهاماً كالعزلة مثلاً، ومن يفضل أوقاتاً من اليوم بعينها، أو تترافق عنده لحظة الإبداع مع سلوك بذاته كالمشي أو التنزه والتأمل وسط يوميات الحياة وجماليات الطبيعة. القراءة المتنوعة وحول هذه الطقوس تقول الكاتبة فاطمة المزروعي: أحب العزلة والتأمل والقراءة المتنوعة بصفة مستمرة، فأجمل اللحظات هي الجلوس في مكتبتي حيث الهدوء والتركيز، لأن هذه الحالة مهمة ومحفزة، فهي تصفي الذهن وتوضح الرؤية أمامي. ودون التأمل والقراءة، لا يمكن للعقل أن ينتج أعمالاً عميقة ولا أن يضع أفكاراً جديدة ملهمة ومبتكرة. فالهدوء والعزلة والتركيز وغيرها من مفردات يوميات الكاتب التي يتنفسها مهمة جداً، ولولاها لما استطاع أن ينجز ويبدع ويكتب وينشر. والحال أن العزلة، على رغم صعوبتها، قد تسهم في زيادة الإنتاج وتحفز على الكتابة، لأنها تتيح التفكير وإمعان النظر والإبداع. ولا يمكن أن نُغفل أيضاً أهمية وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة ومدى مساهمتها في نشر الإبداع، وتكوين صداقات افتراضية ومشاركة الأفكار والأعمال والمناقشة مع الآخرين. كما أنني لا أستغني أيضاً عن المشي المستمر والسير فترة طويلة، سواء في الهواء الطلق أو بين الأشجار أو حتى في المساحة المتوفرة لديّ في غرفتي فهي تساعدني وتحفز خيالي، سواء في القراءة المستمرة من الأجهزة اللوحية أو تسجيل الأفكار، أو حتى مشاهدة الأفلام السينمائية. وتتابع المزروعي موضحة أنها تستخدم كل مصادر الاطلاع، وتسجل أحياناً القصص من الصديقات والزميلات، كما أنها محبة لاستكشاف الأماكن والتفاصيل الصغيرة، بالنظر والسمع وبمَلكات كل الحواس، وتحب تسجيل ما تستكشف أو تسمع من قصص، وكتابته على دفاتر الملاحظات، أو حتى في الهاتف لتستخدمه بعد ذلك. وتضيف قائلة: أسجل بحواسي الأحاديث والصور في مختلف الأماكن، والمحلات التجارية، وفي الشوارع التي قد يصادف الأمر أن أذهب إليها. كما أنني أعيش حالات أبطال جميع رواياتي وأعمالي، وتظل حالة كل منهم وكأنها تتلبسني حتى نهاية العمل! مشيرة إلى أن الكتابة تحلو لها في الأماكن المغلقة، وهي تتأمل العالم من خلال فتحات النوافذ والثقوب في الجدران، لأن تلك المساحة الصغيرة تجعلها أقدر على التركيز ورؤية العالم بكل تفاصيله، وترتاح لرؤية تفاصيل الحياة اليومية بكل أحداثها فتسجلها بحواسها وتنقلها إلى الكمبيوتر، مؤكدة على أهمية مثل هذه الأمور على رغم ما قد يبدو من بساطتها في كتابة الكثير من الأعمال الإبداعية. المشي لغة الجسد وبدوره يقول الأديب حارب الظاهري: المشي بالنسبة لي عادة يومية وأمارسه منذ زمن، سواء هنا في أبوظبي أو في العين أو في أماكن أخرى متعددة. وفي سفري أيضاً حيث الجبال والمروج أرى أن الطبيعة تساعد دائماً على مدى البصر دون حواجز، والطبيعة بثرائها تجدد الفكر في الكتابة وتروّض النفس المتوترة وتلهمنا مشاعر وأفكاراً جديدة، مشيراً إلى أن المشي لغة الجسد، كما أنه لغة الاستمتاع بإعادة كتابة المادة على وقع رتم مختلف يساعد على إضاءة فلسفة العلاقة ما بين الجهد الجسدي والهدوء الفكري، وهذه الصور تلهم الكاتب نحو التجدد في الرؤى المحيطة به، مبيناً أن المشي قصيدة ذات إيقاع مختلف يعفي من الجمود ويحفز الخيال إلى التجديد واكتشاف صور شعرية تستلهم الطبيعة بألوانها وجماليتها. ويستحضر الظاهري ما كان يفعله الفلاسفة المشاؤون، وأهمية هذه الرياضة الفكرية والنفسية باستنباط صور جديدة في الأذهان والأجواء التي يرتادها الخيال مجدداً لرؤية الكتابة الأبعد حساً ونشوة وقوة ذاتية ذات مس مع التحرر من الانغلاق، وكما قال جان بول سارتر عن نيتشه إنه: «أكبر مشاء في تاريخ الأدب». وتعرف أيضاً مدرسة أرسطو قديماً بالمدرسة المشائية، لأنه كان يدرس طلبته الفلسفة ويتأمل في قضايا الفكر والإنسان والوجود، وهم يمشون في أروقة مدرسته. ويؤكد الكاتب حارب الظاهري أن المشي يولد الحكاية ويولد النهاية، وإلا لما دأب على هذه العادة لخلق ما يجسد المشروع الكتابي الفكري، يقول: أتذكر أني كنت أصعد الجبل حين كنت أكتب روايتي الأخيرة، وأنتهي إلى القمة المطلة على مشارف المدينة النمساوية التي تبدو صغيرة، وهناك أعانق الكتابة وفلسفتها الجميلة كمن يضرم النار لإشعال أفكار جديدة بالحروف، فالمشي نحو القمة أو نحو البعد الآخر ثراء للأفكار. وأتذكر قمة الجبل الأبيض في «نيو هامشير»، ومنها عدت إلى كتابة قصص قصيرة مؤجلة لأن استشراف الطبيعة له صدى فكري يمد الإنسان بإبداعات ملهمة تحطم العتم وتصغي إلى النفس وجوها المشرق.
مشاركة :