خطرت لي معان ممثلة ومصورة وأنا أستمع إلى خطاب الرئيس بايدن أثناء قمة جدة الناجحة وهو يؤكد على تصميم بلاده لاقتلاع الإرهاب والحفاظ على التكتلات الدولية والإقليمية التي أسست سبل التعاون الدولي عبر عقود طويلة، وأهمية تلك التجمعات الدولية في معالجة مشاكل البشرية، وضرورة أن تكون منطقة الشرق الأوسط موحدة، وسألت صديقي الإعلامي المرموق الجالس بجانبي: ألم تطرح المملكة تلك الآراء من قبل؟راجعنا سويا ما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل أن يتحدث بايدن، قال ولي العهد: «قمة جدة تعقد في وقت يشهد العالم تحديات كبيرة.. نأمل أن تواجه قمة جدة التحديات العالمية، وأضاف: التحديات العالمية بسبب جائحة كورونا تستدعي مزيدا من الجهود الدولية لتعافي الاقتصاد العالمي، نأمل أن تؤسس قمتنا هذه لعهد جديد من التعاون المشترك لتعميق الشراكة الاستراتيجية».تخيلت أن مواطنا سعوديا عاديا يخاطب الرئيس جو بايدن قائلا: فخامة الرئيس الأمريكي نفوس الناس معادن ومن المعادن ما يعلوه الصدأ ومنها ما لا يجد الصدأ إليه سبيلا، معدن المواطن السعودي صلب مثل الحديد، لقد حاولت أن تحطمنا فلم تفلح، حاول اليساريون في إدارتك جعل السعودية كيانا منبوذا فأدركت أنه لا توجد دولة أكثر مكانة من المملكة العربية السعودية، فما كان عليك إلا الإذعان إلى معطيات الدولة العميقة، ذللوا كل العقبات أمامك لتطير إلى المملكة وتقابل قادتها.هذه الكلمات تساعدنا في التوصل إلى استنتاج مبدئي وهو أن بايدن أخذ هذه القمة عن رضا لأن هناك تفصيلات هامة عرج عليها بايدن قامت السعودية بعملها وتقديمها للمجتمعين في جدة، تلك الأفكار مثلت أذكى التطبيقات لمبادئ الواقعية السياسية، ونجح محمد بن سلمان في فرض موضوع المناقشة على الحاضرين وبالذات التهديدات وطموحات الدول الخارجية من إيران مرورا بالصين في فرض هيمنتها على الشرق الأوسط وبالذات منطقة الخليج، وأسفر هذا عن تحقيق الإجماع الاستراتيجي بضرورة حماية منطقة الخليج وإقامة التوازن السياسي والعسكري لضمان هذه الحصانة الأمنية.أثبت محمد بن سلمان أنه رجل دولة عالمي يقود دولة قوية على دراية بالأولويات الاستراتيجية للعالم والشرق الأوسط، السعودية لقنت بايدن ومعاونيه درسا في ما هي الثوابت وما هي المتغيرات في مجال السياسة الخارجية. هناك مكاسب سياسية عديدة بلورتها قمة جدة منها الموضوعات الخاصة بعدم تغير مواقفها من القضية الفلسطينية، وعدم الرغبة في القيام بحرب مفتوحة مع إيران، ولذا فإن المكاسب السياسية للسعودية في هذه القمة كانت أكثر من المكاسب التجارية والاقتصادية.استطاعت السعودية رسم خريطة جيوسياسية جديدة للشرق الأوسط والخليج بعد قمة جدة؛ فالعالم بأسره يوافق على قيادتها لكل من العالمين العربي والإسلامي، وأضحت الرياض لاعبا هاما في التوازنات السياسية بين الشرق والغرب، القمة رسالة هامة لواشنطن ليس فقط ألا يجب عليها أن تنسى السعودية، بل عليها أن تستمع لنصيحة المملكة في كيفية خوض سياسة خارجية ناجحة.وبناء على هذا أكد بايدن بوضوح أن الولايات المتحدة «لن تتخلى» عن الشرق الأوسط حيث تلعب منذ عقود دورا سياسيا وعسكريا محوريا، وأنها لن تسمح بوجود فراغ تملؤه قوى أخرى مثل الصين أو روسيا أو إيران، الظاهر أن بايدن أكثر حذرا من أوباما الذي أراد أن يغادر منطقة الشرق الأوسط ليخلق محورا لبلاده في شرق آسيا.نصيحة أقدمها للرئيس جو بايدن ألا يصطنع تحفظات في سياسة بلاده تجاه المملكة العربية السعودية لأن العبء أكثر من تحمله وحدك، أمريكا لا تقف وحدها فهناك قوة عربية إسلامية تكافئ قوة أمريكا تقودها الرياض، وولي العهد السعودي يدرك حجم أوراق اللعبة التي تملكها بلاده اقتصاديا، حيث أعلن الأمير محمد بن سلمان تعهد بلاده برفع إنتاجها من البترول إلى 13.4 مليون برميل يوميا بنهاية 2026 بينما تبلغ الطاقة الإنتاجية القصوى للسعودية في الوقت الحالي نحو 12 مليون برميل يوميا، تنتج منها نحو 10.4 ملايين برميل يوميا، يتم تصدير أقل من 7 ملايين برميل منها كأكبر مصدر نفط في العالم، لكنها لن تستطيع رفع معدل الإنتاج أكثر من هذا مع مقدم عام 2027.بالإضافة إلى ذلك شهدت قمة جدة الصياغة لمعادلة الأمن والتنمية ببراعة من قبل أجهزة السياسة الخارجية السعودية؛ فعلى سبيل المثال ستساعد السعودية في المجهود الدولي الرامي إلى تحقيق الطفرة في صناعة البرمجيات الحاسبة إلى الجيل المعروف باسم «جي 5» وهو نظام متقدم جدا في ذاكرة المعدات الحاسوبية.فتش بايدن عن ثغرات لإحراج السعودية، وإذا بالمملكة تلقنه درسا في عدم المبالغة في الأحكام. إن المملكة السعودية أعطت الله تعالى عهدا على أن تكون عادلة؛ لذا شهدت قمة جدة قسطا وفيرا من المبادرات السياسية الهامة التي تعمل لخير البشرية جمعاء مثل الدعوة إلى إنهاء الحرب الأهلية في اليمن وعودة الملايين من اللاجئين، إلى الاستثمار في وسائل الطاقة التي تحقق الضخ الصفري لعنصر الكربون (الحياد الكربوني).في السياسة الخارجية يجب على الرئيس الأمريكي أن يقوم برحلات ومغامرات وعندما يتحدث الرئيس الأمريكي عن السياسة الأمريكية لبلاده مع دول أخرى فهو ليس حرا فيما يقوله، هناك مواضع نقص في سياسة أمريكا الخارجية وفي طريقة إدارة بايدن لها بالذات، من لا يحسنون فن إدارة السياسة الخارجية يكونوا عقبة في مسار السياسة الدولية؛ فكيف إذن السبيل إلى سياسة أمريكية خارجية ناجحة مع العالم العربي والعالم الإسلامي؟يتعين على بايدن أن يدرك وأن يأخذ بمشورة السعودية والدول العربية لتحقيق إجماع استراتيجي، وعليه توظيف البيروقراطية للمتابعة لمراجعة ما تم إنجازه في قمة جدة، نعم استطاع بايدن أن يتغلب على العديد من العقبات بمساعدة المملكة العربية السعودية، وقد أتاح له اختلاف الثقافات التي عايشها أثناء زيارته أن يعيد النظر في الكثير من الشؤون الثقافية والسياسية، وأن يعود بتصور أعمق للعلاقة بين السياسة والمجتمع وقدرة على التفريق بين القوة العسكرية والتفاوض.أخيرا لم أكد أسمع خطاب الرئيس بايدن حتى استطعت استنتاج أن هناك بيانا واضحا إلى أن أمريكا ممتثلة لقيادة السعودية للعرب، كثر الظن وقل اليقين بسياسة أمريكا الخارجية، عامل الرجحان ما زال ساريا من ناحية توقعات الغير عن ما ستكون عليه سياسة أمريكا الخارجية بعد انتهاء قمة جدة، لذا فالنصيحة الثمينة لبايدن ومعاونيه هي الالتزام بالمعايير التي أقامتها السعودية في منظومة العلاقات الدولية حتى لا تكون أمريكا معزولة في الشرق الأوسط.mr_alshammeri@