وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا

  • 12/25/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا شك أن الإسلام يتميز عن سائر الشعائر والمعتقدات بالوسطية والاعتدال، بل إن منهجه قائم على هذه الصفة في كل مجالاته، والوسطية شعاره منذ أن أرسل الله الرسل بدين الحق، من لدن نوح ـ عليه السلام ـ إلى سيد المرسلين محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون الحق هم الأمة الوسط، والوسطية عند المسلمين هي الصراط المستقيم، وكذا هي الهداية والخيرية بلا شك، وقد عبر الله ـ سبحانه ـ عن ذلك بقوله: ويهديك صراطاً مستقيماً، وقوله: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. ومن فضائل الإسلام أنه يدعو إلى الاقتصاد والاعتدال في التكاليف والأحكام، وذلك في نصوص شرعية صحيحة، لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وقال تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا. ثم إن المنهج الذي جاء به القرآن الكريم إلى الحياة البشرية قائم على الاعتدال، في كل ما دعا إليه وأمر به وحث عليه، وهو الحكم العدل، الذي إن تمسك به الناس سلموا وسعدوا ونجوا في الدنيا والآخرة، ولذا نجد للوسطية أثراً في كل حكم من أحكامه، وفي كل آية من آياته، ونلمس معانيها في مواضع لا تكاد تحصى، لكثرتها، وتنوعها، وتكررها في المضامين المختلفة، من أوامر ونواه، ومواعظ وزواجر، وأحكام وأخبار، ودعاء وطلب، وفقه وقصص، وتذكير وبيان. وإنها لوسطية ناصعة تشرق مع كل حرف في قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. وفي قوله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وإنها لدعوة إلى الاعتدال ونبذ الغلو والتطرف في مواجهة الآخرين، حتى يتم تبليغ الرسالة على خير وجه، فتؤتي أكلها، دون إثارة أحقاد، وبعث ضغائن، تمحو جهد الداعية، وتؤدي إلى ردة فعل غير مرغوبة. ولقد سيطرت فكرة الانفصام بين الروح والجسد على كثير من العقائد والفلسفات، وانبعث من هذا الانفصام جنوح شديد إلى أحدهما على حساب الآخر، فظهر اتجاهان بارزان: أحدهما أغرق وبالغ في حق الجسم، والآخر على النقيض من ذلك، كان كل اهتمامه في حق الروح. فالذين أصبحت القيم المادية عندهم محور الحياة حولوا الإنسان إلى آلة تتحرك، وقدسوا المحسوسات، وغرقوا في الشهوات، ولم يروا غير المنافع الدنيوية العاجلة، وهذا منهج النفعية المادية، الذي تمثل في المادية الماركسية، أو الرأسمالية المادية، والذين رأوا الجسد سجناً للروح ابتدعوا رهبانية قاسية حرمت النفس من ملذات الحياة، وعزلتها عن الحياة، وكبتت غرائزها، كما قال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وجاء الإسلام ليصحح المسألة، ويهدي الناس إلى أقوم السبل، وأعدل الطرق، الطريق الوسط، بين عبادة المادة ونسيان حق الروح، وبين إرهاق الروح ونسيان حق البدن، ليعطي كل ذي حق حقه، وفقا لقوله تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا. والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وسط قومه، أي خيرهم وأفضلهم، وسيرته وسنته كلها قائمة على معنى الوسطية والاعتدال، في كل النواحي والمجالات، من عبادات، وشعائر، ومعاملات، وحكم، وقضاء، وحدود، ومعاهدات، وحروب.. وغير ذلك. وجاءت سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ نموذجًا في الاعتدال، وثبت أنه (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً). وقد روى أنس رضي الله عنه: (أنه جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وفي حديث آخر: قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة!) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). والأمثلة كثيرة لوسطية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أموره كلها، وقد تميزت حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع جوانبها بالاتزان والاعتدال، وكان مثلا في تطبيق المنهج الوسط، الذي جاء به من عند الله سبحانه، حيث انعكس ذلك المنهج على تصرفاته وسلوكه القويم، فكانت حياته نبراسا لأمته من بعده في التوازن والاعتدال. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريصًا على توجيه أصحابه إلى التوازن المقسط بين دينهم ودنياهم، وبين حظ أنفسهم وحق ربهم، وبين متعة البدن ونعيم الروح، فإذا رأى من بعضهم غلوا في جانب، قومه بالحكمة، ورده إلى سواء الصراط. وهكذا تعلم الصحابة أن يوازنوا بين مطالب دنياهم وآخرتهم، وأن يعملوا للدنيا كأحسن ما يعمل أهل الدنيا، ويعملوا للآخرة كأحسن ما يعمل أهل الآخرة. وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القدوة في الاعتدال، حين طبق ذلك ليرى صحابته فعله ويقتدوا به، فعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: (أولئك العصاة! أولئك العصاة!). وفي رواية: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر). فهذا الحديث يبين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترك الصيام في السفر، ليقدم القدوة لأصحابه، الذين شق عليهم الصيام، فأفطر ليفطروا، وسمى المخالفين له في إفطاره: عصاة، لأن الغلو في مثل هذه الأمور يؤدي إلى المعصية. ومن هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاقتصاد في الموعظة، كما روى ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا)، وبوب عليه البخاري بابا بعنوان: (ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا). وأخذ أكثر الصحابة بهذا الهدي النبوي الشريف، وعملوا به. فعن أبي وائل قال: (كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا). وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (بينما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه). ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل من أصحابه أي نوع من الغلو والتطرف والغلظة في المعاملة، حيث وردت في سيرته مواقف عدة تبين هذا، ومنها الموقف مع ذلك الرجل الذي بال في المسجد فثار عليه الصحابة، وكادوا يوقعون به! فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زجره، وقال: (دعوه! وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ـ أو: سجلا ـ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول عن نفسه: (إن الله لم يبعثني معنتًا، ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلماً ميسّرًا). لو تأملنا حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مختلف جوانبها لوجدناها تفيض بالوسطية والاعتدال.

مشاركة :