في نقد العقل المغلق

  • 12/25/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

من يتحدث عن الاستقلال، لا يطلب سوى الهيمنة. هذا ما يفضحه الخطاب العربي حول الاستقلال الفلسفي. ولكي نفهم «واقعنا العربي»، سنضطر للنظر إلى ما يحدث في مراكز الرأسمالية العالمية وتأثير ذلك في بلدان الأطراف. فلا يمكننا، نحن الذين نعيش في مجتمعات عربية أخفقت في اللحاق بزمن الحداثة، بناء فلسفة واعية بقصورنا وقصورها، إلا عبر انفتاحنا غير المشروط على الخطاب الفلسفي الغربي وإبداعات العلوم الإنسانية والتعلّم منه، خصوصاً الخطاب النقدي، وتحويله، كما دعا إلى ذلك عبدالكبير الخطيبي قبل عقود، إلى نوع من النقد المزدوج. وبلغة أخرى، إن طريق الاستقلال الحقيقي، إذا اضطررنا لاستعمال هذا المفهوم، يمر عبر التحلّي بالتواضع، وتجاوز العادات الفكرية السقيمة التي تؤبد منطق الشيخ والمريد، والجلوس في هدوء داخل مدرسة الحداثة. فحتى ما نسميه تراثنا الديني والثقافي، لم يعد في الإمكان فهمه وفهم تاريخه من دون الاستفادة من إنجازات الحداثة أو بالأحرى، من خلالها فقط، لأن علاقتنا بتراثنا ظلّت عاطفية أو أيديولوجية. إنها علاقة ظلت تقوم في لغة التحليل النفسي على «وفاء باثولوجي»، وظلّت غالبية المساهمات في هذا السياق تعيد إنتاج هذا الوفاء الباثولوجي، حتى تلك التي ظلّت تدّعي أنها نقدية. فمن يتحدث عن ضرورة الرشدية في زمن ما بعد الحداثة، لا يقل سلفية عن ذلك الذي يطالب بالعودة إلى نظام خلافة، يقول تاريخه أنه قام على جماجم الشعوب. إنه يؤسس، وفي لا وعي، لقيم الطاعة التي اعتقد أنه قام ضدها. يرى المحلل النفسي أرنو غروون، أن الوفاء والطاعة يجدان أصلهما في السلطة، هناك حيث تصبح العبودية المختارة قيمة أخلاقية وإنسانية تستحق الإعجاب. ويتضمن ذلك غالباً حطاً من قيمة الذات وإعلاء من قيمة السلطة، بغض النظر عن شكل السلطة، إعلاء يتحقق أحياناً كحب أعمى. أليس هذا ما تؤبده الرؤية السائدة إلى ديننا وتراثتنا؟ وهنا نلمس ضرورة القطع مع تكتيكات العقل التقبلي، سواء في علاقتنا بالتراث أو بإنجازات الحداثة الغربية. فالعقل التقبلي هو عقل السلطة. إنه العقل الذي يقوم بتبرير بقائها وصلاحيتها وبتزييف الحياة. وحين يدعو هذا العقل إلى الثورة على الغرب والقيم الغربية، فهو، لا ريب، لا يؤبد عبر ذلك إلا تبعيتنا لهذا الغرب ونكوصنا الحضاري، لأن التبعية الحقيقية تخلف، ولأن تضخم دور الدين والحضور المرضي للموتى أو ما يسمى في اللغة السائدة تراثا، وترديد الأناشيد القومية ولوك الشعارات، لا يصنع استقلالاً ولا يضع أساساً لبناء حضارة أو لمشاركة فعالة في الحضارة الإنسانية. يعيش خطاب الاستقلال وخطاب العروبة والتحرر الوطني إلخ... اليوم نهايته المفجعة، في دول ظلت لعقود تحكمنا باسم الممانعة والتحرر وتحرير فلسطين. فالجيل الذي تربى في مدرسة ما سمي بالتحرر الوطني ومدرسة الاستقلال، يتسم بسمة أساسية وهي أنه كثير الكلام، وأنه يعطي لنفسه وحده حق الحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل. خطورة هذا النوع من التفكير الكفاحي، تتمثل في أنه يتناسى لعبة الأجيال، ويعيد في لا وعي إنتاج الخطاطة التي ادعى أنه يقوم ضدها والتي تقوم خصوصاً على التضحية بالابن. فمرحلة التحرّر الوطني التي تخلّصت من الاستعمار الأجنبي كما علّمونا في المدارس، لم تقطع مع العبودية وإنما أعادت إنتاج الاستعمار، وهذه المرة في شكل رديء. إننا أمام أدلوجة تتكلم لغة الناس وتدين بدينهم، لكنها لا تختلف عن الاستعمار القديم في شيء، لأنها تطالب الناس بإنكار ذواتهم وحريتهم من أجل هدف أسمى ندرك اليوم عبثيّته وفراغه. آن للفكر العربي أن يغادر «النموذج الأيديولوجي»، نموذج التفكير والمفكر الذي يملك حقيقة التراث وحقيقة التفكير وحقيقة الواقع، والذي لا يقبل الحوار لأنه، هو الذي تربى في مدرسة الشيخ والمريد، لا يعرفه، ولأنه ما برح يعتبر التعدد والتغريب والتفكيك خطراً على الهوية التي تظلّ أقرب منها إلى كذبة حياتية منها إلى واقع. لكن نقدنا للمثقف الكفاحي - وهو مثقف كثير الكلام، سريع الغضب كما عهدناه دائماً، أي نسخة ورقية عن حاكمه - لا يجب أن ينسينا توجيه سهامنا الى تلك الكائنات المتفلسفة والتي بدأت تنبت كالفطر، وتتعامل مع التفكير تعاملها مع البضائع الأجنبية، مساهمة عبر ذلك في تكريس العقل التقبلي الاستهلاكي. إنك قد تجد بعضها يكتب عن ابن رشد وهابرماس وفلسفة اللغة والإبستيمولوجيا، وفوق ذلك ينجز موسوعة للفلاسفة الأميركيين وقريباً لربما موسوعة عن فلاسفة الهنود الحمر إلخ... وتشعر بالحزن لكمية الورق التي ذهبت وستذهب سدى. مثل هذا النوع لا يجب أن نأخذه بجدية، لأنه لا يأخذ أسئلة واقعه بجدية، ولربما لا يعرفها، لكن لا ضير من التذكير بحضوره في معرض الحديث عن أعراض مرض اسمه التخلّف. فالتخلّف في كلمتين: نسيان للواقع. إن من يتحدّث عن استقلال فلسفي اليوم يحكم على نفسه بالتفاهة، وقد تدغدغ كلماته الغالبية الساحقة، وقد تمنحها بعض العزاء الكاذب، لكنها في النهاية لا تعمد إلى أكثر من تأبيدها كموضوع لزمن العالم، وفي غالبية الأحيان كموضوع رديء. فالجيل الجديد قد لا يجد في تلك المعارك الوهمية لجيل «الاستقلال» ما يسدّ رمقه أو حتى يثير انتباهه. وكلمة حرية تملك اليوم بالنسبة إليه معنى مختلفاً، ولنقلها علناً، إن الحرية إما أن تكون فردية أو لا تكون. وقد تكون حرية جسده أهم بالنسبة إليه من ذلك الشطط كله حول التحرر القومي الذي قبر روحه وجسده، بل إنه سيفضّل المغامرة بحياته، سيركب زوارق الموت ليعبر المتوسط، لأنه لم يعد يجد الحياة ممكنة إلا على الضفة الأخرى، هرباً من البراميل المتفجرة. سيترك الاستقلال والدين والوطن والتراث وقبور الأجداد والأحفاد، لحراس الهياكل القديمة، وسيبحث عن حياة هناك، حيث قد تكون للحياة الإنسانية وللإنسان قيمة.

مشاركة :