في نقد نقد العقل العربي

  • 6/2/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كانت فترة أوائل القرن العشرين شاهدة على حركة فكرية عربية دُعيت بالنهضة، ووصلت ذروتها مع العميد طه حسين، فإنه مع أواخر القرن ظهر لنا مشروع فكري يمكن اعتباره هو الأهم، وخير ختام لقرنٍ كانت بدايته نهضوية. فقبل نهاية القرن، وتحديداً قبل عام 1993 ظلَّ الفضاء الثقافي للفكر العربي المعاصر يعاني من "عقبة في سبيل المعرفة"، عقبة أوجدها الدكتور محمد عابد الجابري في مشروعه ذي الأربعة أجزاء، والمخصص لدراسة العقل العربي. محمد الجابري، الذي يعد واحداً من أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين، رأى تطور الفكر في العالم كله والتقدم الهائل للحضارة الغربية، في الوقت الذي أصبح فيه العالم العربي الإسلامي يقف عاجزاً أمام مواكبة هذا التطور. ما سرُّ هذا العجز؟ أدرك أستاذ الفلسفة في الجامعة المغربية، أن السر يكمن وراء "العقل العربي" بوصفه أداة التفكير. أصبح الجابري مع أواخر ثمانينات القرن "نجماً ثقافياً"، ومتحدثاً رسمياً باسم العقل العربي. كيف لا يكون وهو واضع عقل الإنسان العربي في محله، أو هكذا ظن، وأحكم إشكالياته بمناورات فكرية بارعة. نعم إن نقد العقل شرط أساسي في سبيل تحقيق أي نهضة فكرية، لكن لا بد من ضبط هذا النقد أصلاً. لقد أسر الجابري العقل العربي وأحكم إشكالياته وأغلق الطريق أمام الكثير في الاجتهاد والتأويل، حتى جاء جورج طرابيشي مُخلِّصاً من هذا الأسر. سنة 1993 انطلق أول شعاع لشمس طرابيشي على العقل العربي، شعاع كان كفيلاً بحرق الغشاوة التي أحكمها الجابري على العقل العربي. ثم مارست الشمس وظيفتها الرئيسية كمصدر للحياة، أو والحالة هذه، كمصدر للفكر. نحن أمام إنجاز فكري ضخم، مشروع فكري لنقد نقد محمد عابد الجابري، "نقد نقد العقل العربي"، المكون من أربعة أجزاء رئيسية، بالإضافة إلى ثلاثة كتب فرعية، لا أتردد في اعتباره مصدراً رئيسياً لحياة العقل العربي المعاصر. طرابيشي يفند كلام الجابري، ويثبت خطأ دعواه، ثم يطرح جديداً ويعيد بناء العقل العربي في موقعه الحقيقي. رحلة نقد نقد العقل العربي طويلة، وشاقة، ومتشعبة جداً. بجانب نقد طرابيشي لنقد محمد الجابري المعنون "نقد العقل العربي"، يأخذنا إلى رحلة في تاريخ الفكر الإنساني بكامله، رحلة ستعيد بعدها النظر في كل شيء. رحلة، بالتأكيد، ستخرج منها مختلفاً عن دخولك إليها. أقول إذا استوعبت، ولو جزءاً بسيطاً من نقد النقد، سيتحول عقلك إلى عقل ناضج يمكنه التفكير بحرية وبلا خوف. طرابيشي له قدرة غير عادية على قراءة النصوص، وبارع في تدقيقها وتحليلها وتفسيرها، ثم العودة إلى المصدر للتأكد من دقة نقلها. من أجل هذا النقد قرأ طرابيشي عدداً هائلاً من المراجع والمصادر للتراث اليوناني، والأوروبي (الوسيط والكلاسيكي والحديث)، فضلاً عن التراث العربي الإسلامي. طرابيشي لا يستسهل في إصدار أحكامه دون أن يكون عنده من الدلائل التاريخية ما يكفي للإثبات، وعنده من المنهج العقلاني ما يكفيه لتبرير وجهة نظره. هذا بجانب ثقافته الموسوعية، ولغته العربية الجميلة التي تجعل مشروعه "نقد نقد العقل العربي" من أهم المشاريع الثقافية الحادثة في آخر قرن، في العالم كله. لن يكون الحديث عن نقد النقد مجرد "ريڤيو" لكتاب، فالكلام يكون على قدر الحدث. والحدث هنا مشروع عظيم. أطروحة فكرية لا أُخفي إعجابي الشديد بها وبكاتبها. طرابيشي أفنى جزءاً غير صغير من عمره في سباعيته هذه. اعتزل العالم، إلا أسرته، من أجل إخراج مشروع فكري يليق بفكر الإنسان الكوزموبوليتاني. والكوزموبوليتية من اليونانية κοσμοπολίτης، هي توجه فكري (أيديولوجيا) تقول إن الإنسانية كلها تنتمي إلى مجتمع واحد وثقافة وتراث مشتركين. فالإنسان الذي كان يعيش في مصر القديمة لا فرق بينه وبين الإنسان الحالي. الأعراق والديانات والقوميات واللغات التي تفرق بني الإنسان وتبني حدوداً بينهم لا وجود لها. نهر الفكر الإنساني يجري منذ نشوء الإنسان العاقل حتى هذه اللحظة. لنعد إلى موضوعنا، مشروع نقد نقد العقل العربي. فخلال رحلة القراءة سوف نتعرف على مصطلحات جديدة، وأفكار جديدة على مستوى جميع الأفكار الإنسانية، وهذا يتطلب صبراً ونَفَساً طويلاً. ومن أجل قراءة صحيحة لنقد النقد، لا بد من تقسيم ما ورد في نص المشروع إلى أربعة نصوص (أقسام):أولاً: نصوص محمد عابد الجابري نفسها: جورج طرابيشي يقتبس فقرات كبيرة، يُسميها شواهد، من مشروع الجابري من أجل عرض أفكاره ومن ثم نقدها. ثانياً: نصوص إثبات خطأ الدعاوى الجابرية: أدلة تاريخية يذكرها ويحللها طرابيشي كدليل على خطأ، وأحياناً تزوير نظرية الجابري. ثالثاً: نصوص طرابيشية جديدة: جورج طرابيشي لا ينقد فقط، بل يعيد بناء ما هدمه الجابري. ومن ثم يطرح أفكاره الجديدة ويدلل عليها بأحداث تاريخية من مصادر رفيعة المستوى. رابعاً: الخلاصات: وهي النصوص التي ينتهي إليها طرابيشي. فبما أن كذا وكذا وكذا... وبما أن كذا وكذا وكذا... إذن كذا. ويكتب النتيجة بمنتهى الوضوح والشفافية. والحقيقة كان يجب اقتراح نصوص خامسة مخصصة للجمل الاعتراضية والحواشي. فطرابيشي يعشق الجمل الاعتراضية ويكتبها بصيغة تهكمية واستفهامية جميلة لا تخلو صفحة منها. أما الحواشي فيمكن أن نتخذ منها أفكاراً يمكن مناقشتها في كتب كاملة. تقسيم نص المشروع على هذا النحو مفيد للقراءة الصحيحة ولتناول المشروع وفهمه، ومن غير تقسيم فسوف يتوه القارئ في دهاليز المناقشات الجابرية-الطرابيشية، وغالباً ما سينسى غرض الكتاب الرئيسي. وإذ نحن بصدد الكتابة عن نقد النقد بشكل بسيط، فلن نكتب في الأربعة أقسام دفعة واحدة، ما الفرق بين كلامي وكلام طرابيشي إذن! قراءة الكتاب أثمن في هذه الحالة. أقول إننا سوف نناقش كل قسم في موضع منفصل. موضع لا تكون غايته إملاء الحقائق، بل يدعو إلى التفكير بالمقام الأول. فهل كانت الفلسفة معجزة اليونان حقاً؟ هل الحداثة الأوروبية الحالية بنت العقل اليوناني القديم؟ هل حضارات البحر المتوسط أرقى فكراً من حضارات الشرق الأقصى؟ وفي بعض الأحيان سيكون الموضع عن شرح المصطلحات التي يذكرها طرابيشي، من أجل ضبط القراءة والوقوف على المعنى الصحيح للكلمة. فما معنى الأبستمولوجية؟ وما معنى الآرسامية؟ وما العقل؟ وماذا تعني الحداثة؟ لا أُخفي أن الكتابة في نقد نقد العقل العربي ساعدتني على قراءته. القراءة من دون كتابة تعليقات شخصية على أي كتاب تُفقده قيمته. حتى ولو فهمت ما تضمنه الكتاب، فما هي إلا أيام، أو أسابيع، وستنسى عن ماذا يتحدث الكتاب أصلاً. فما بالك إن كان هذا الكتاب ليس للفهم فقط، بل للهضم. كل ما آمله الآن تمني استمرار نفس حماس القراءة والكتابة عن المشروع. لتكن حماسة طرابيشي في كتابة مشروعه، التي استمرت ربع قرن، لنا دافعاً. وتكون وصيته: "لا بد من التمسك بالعقلانية ونقد الذات" دائماً أمام أعيننا. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :