يعيد الروائي المغربي محمد الأشعري في جديده "من خشب وطين" (2021) تفكيك شرنقة الحياة المعاصرة، بمواجهة صريحة مع أسئلة الحياة الأكثر عمقا، وإماطة اللثام عن أقنعة كثيرة، عن البشر والأشياء والأوهام، التي نعيش بها وفي وسطها. كل ذلك في متن روائي مكون من ثلاثة فصول "أولا، خروج الدابة. ثانيا، ورني وحشك يا الغابة. ثالثا، محنة الشجرة) متناغمة حول المسألة البيئية، فالنص أشبه بحكاية عن صعود إلى الهاوية جراء الإخلال بالنظام الإيكولوجي، ومساءلة لثمن تفريط البشر في التوازن الطبيعي والمجالي والفطرة الإنسانية السليمة. تساؤل الرواية على لسان إبراهيم "بطل الرواية" وبقية الشخصيات "القنفد، النحل، الغابة" عن علاقة الإنسان بالأرض والنبات والحيوان، من خلال السعي وراء "التفاصيل والكائنات الصغيرة التي لا نعتقد يوما أنها ستغير حياتنا". تبدأ متوالية هذه الأسئلة بعد عثور إبراهيم على قنفد مكسور الساق، بجوار غابة المعمورة "نواحي مدينة الرباط"، لينطلق مسلسل البحث عن علاج حيوان أو "ضحية لا يعترف أحد بحاجتها إلى الإنقاذ"، فلولا الطبيبة البيطرية الفرنسية بريجيت ذات القناعات المختلفة، ما تلقى هذا القنفد العلاجات الضرورية. يهيم القارئ، على امتداد 360 صفحة، في رحلة انتقالية قسرية عاصفة مع إبراهيم، الإطار البنكي الفرنسي التكوين والأمازيغي الأصول، الذي قرر تغير مسار حياته، بعد أن قرأ ذات صباح مقالا في صحيفة "لوموند" عن الخطر الذي يتهدد الحياة في كوكب الأرض بسبب الإبادة التي يتعرض لها النحل، فيشرع في تنفيذ سلسلة انتقالات تقلب كل شيء رأسا على عقب، حيث يغادر المدينة ليستقر في الغابة، مستبدلا وظيفته المرموقة في البنك بمشروع تربية النحل... هكذا عاش إبراهيم مسيرة ضدية نحو النقيض، من المركز نحو الهامش، واستبدل حياة التصنع والبذخ بالعيش البسيط والتلقائي، وعودة إلى الأصل.. إلى الطبيعة. في رحلة العودة الاختيارية أو الهجرة الطوعية لإبراهيم نحو الطبيعة، لإقامة بيت من خشب وطين بين أحضان الغابة، في طياتها كثير من الإيحاءات والرمزيات. فدلالات النص تتجاوز مجرد "رواية عن الغابة بأشجارها ومائها، بعتمتها وتوحشها" نحو متن عميق عن "الجشع الإنساني والمصائر المتشابكة التي تصير معها كل الأجوبة السليمة ضربا من الجنون". تتكثف الدلالات الفلسفية في رواية "خشب وطين" بتعدد زوايا القراءة والتفكيك، ويبقى معلما أسئلة الحداثة وقضايا البيئة، محددين أساسيين، يتداخلان تارة ويتقاطعان أخرى، على مدار فصول النص الروائي. وأبدع الروائي، غاية الإبداع، في تفجير تناقضات الحداثة في مسرح الطبيعة، حتى بدت حركة المد والجزر، بين سيرة الغابة وسيرة الفرد، بمفارقاتها الساخرة التي طبعت النص، أقرب إلى محاولة سردية لاستعادة جدليات، قديمة متجددة، عن العلاقة بين الطبيعة والثقافة أو أشكال التقييد والتحرر. تمثل سيرة الفرد في الرواية التي ترمز لها شخصية إبراهيم، بطل الرواية الذي بنى بيتا من خشب وطين، سعي الفرد الدؤوب إلى البحث عن تأسيس طور جديد من تجربة الإنسان وتاريخه. فلحظة ممارسة القطيعة في شكل ارتماء روحاني في الغابة، مثلت ولادة جديدة للرجل. وعبر السارد عن ذلك على لسان سليمان صديق إبراهيم "يعتقد جازما أن انتكاسة التحديث لا تؤدي فقط إلى العجز عن العبور إلى الضفة الأخرى، بل تؤدي إلى العودة المأساوية قرونا إلى الوراء". يعد قرار التخلي عن الحياة الجماعية "المدينة، الحداثة..." نحو خيار الاستقرار وسط الغابة "البادية، التقليد..." دليل على التشبع بفلسفة الاستغناء عند المقدرة، فالوفاء للجوهر والروح في الإنسان خصلة أصيلة في إبراهيم، الخبير البنكي صاحب الوضع الاجتماعي الاعتباري، الذي اختار معاكسة تيار وهم النجاح المعاصر الذي أحكم قبضته على الإنسان، رافضا اللهاث خلف سعار النجاح والتملك، حتى بدا الرجل في معركة ضد الذات، خوفا من السقوط في نمطية القالب المرسوم من قبل المسيطرين على الوعي، والمتحكمين في الإدراك إلى حد التملك لحياة الإنسان فيما يشبه نوعا من الاسترقاق المستحدث. "كان إبراهيم متحمسا للتخلص من الحياة الزائفة، ومن مجتمع الرغبات المفتعلة والأوهام". يقرأ انتصار البطل للموقف الثوري، إزاء واقع الإقامة البلهاء في التعاسة التي احتوت الناس لدرجة سلبهم الحرية والإرادة، والتحكم في حرية اختيار المسارات المرغوبة، بأنه رهان أخير على الفكاك والخلاص الفردي. وسبق لإبراهيم أن أسر بذلك لصديقه "بعد أعوام من تمجيد الثورة والانتفاضة الشعبية، نلوذ أخيرا بحل صغير فرد، لا يتجاوز رتوشات باهتة على حياة صغيرة". وكان مطمئن البال إلى قراره، باعتباره حقا فرديا في الولادة من جديد للفرد المستقل فيه، وذلك انسجاما مع إدراكه بأن "الحياة حكاية فردية بحتة، حتى لو شاركتها مع الآلاف... على يقين بأنني لم أنضج في حياتي فكرة كما أنضجت فكرة هذه القطيعة". بعيدا عن الذات/ الفرد "الحداثة" قريبا من الطبيعة، تعيد الرواية تقديم هذه العوالم إلينا في قالب آخر، فـ"الغابة ليست فقط أشجارها التي تربط الأرض بالسماء، لكن أيضا أرواحها. تلك الحيوات كلها التي لا معنى للغابة بدونها، ولا معنى لها إلا في الغابة". ولا يتردد في وصف الغابة بالوجه الحقيقي للحياة التي ينبغي تحصينها وحماية حرمتها، وإدراك قيمتها الوجودية ككائن حي، لا مفر من حمايته بموجب القوانين المعترف بها دوليا، فـ"خطأ الإنسان الفادح هو أنه عد الأرض مجرد موارد، بينما هي كائن حي، وككل كائن حي فإنها معرضة للقتل". يقدم الكاتب سيرة غابة في روايته، لكن القارئ يكتشف أنه يقرأ سيرته، فالإنسان جزء عضوي من الطبيعة، ما يعني وحدة في المخاطر ضد الغابة والفرد، فقلما تنبه الإنسان إلى أنه جزء من الطبيعة وليس خارجها. هذه الحقيقة وحدها كافية، في نظر الكاتب/ السارد، لاستنهاض الإنسان بحثا عن إنسانيته المختطفة، وتحرير نفسه من أغلال العبودية والاستحداث المطرد "في زمن يتسابق فيه العالم على إبادة الحياة فيما هو يعتقد أنه بتسابق لإنتاج الوفرة".
مشاركة :