إن التغيرات السوسيولوجية التي مست المجتمع في المرحلة الحضارية واللحظة التاريخية الحديثة والمعاصرة، وما نتج عنها من تحولات مجتمعية، جعلت المفكر أو الباحث المهتم، أحيانا، عاجزا عن التملك المعرفي لهذا الواقع المعقد، الذي فاض أمامه وغطى على أدواته التحليلية النقدية، فصارت ممسوسة بنوع من التبلد الأقرب الى فقدان الذاكرة، أمام محاولته فهم وتفكيك وإنتاج معرفة حول هذه التغيرات والتحولات، التي يعيشها -الباحث- ممزوجة بالكثير من القلق والتعاسة البلهاء والالتباسات المؤلمة والشائقة التي لا تكف عن توليد حرقة الأسئلة باستمرار. في مثل هذه المواقف الصعبة غالبا ما تتجرأ الرواية على خوض غمار هذه المغامرة المعرفية الساحرة بأدوات فنية أدبية جمالية في محاولة منها سبر أغوار التباس تعقد الواقع، وما يعتمل في جوف داخله العميق من تغيرات وتحولات، تأتي على الأخضر واليابس في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تجد نفسها مدفوعة الى ضرورة المراجعات النقدية، للمنطلقات والآليات في أفق تجديد أرضية التأسيس الفلسفي والمعرفي. هذه هي الموجهات الارشادية (براديغم) الكامنة في السجل الثقافي للقراءة بسياقاتها وظروفها التاريخية الاجتماعية التي اعتلت صدارة الانطباع والفهم، وتحكمت في فرضيات التأويل، لحظة تفاعلي، خلال سيرورة القراءة، مع رواية محمد الأشعري "من خشب وطين" التي تناولت سياقات وترابطات مجتمعية سياسية، ايكولوجية تاريخية شديد العمق والتركيب والتعقيد. وقد تميزت، تلك السياقات، بصراعات وحروب طاحنة للتحكم في الفرد والجماعة والمجتمع والسلطة والثروة، من خلال القوة والنفوذ والسيطرة على المجال المادي الايكولوجي، والرمزي الثقافي والديني على مستوى التصورات والمعتقدات. لذلك انفتحت الرواية على خلفيات جذور بنيات ما يحدث، الآن هنا، من خلال قراءة صمت الذاكرة التاريخية المكبوتة والمقموعة، لما تخفيه سيرة غابة المعمورة في سيرورتها التاريخية الطويلة المدة. حيث عرف المثلث المحظور سياسيا ومعرفيا عدة جدليات: المجال الغابوي والانسان والسلطة. فقد برز بشكل أساسي صراع رهيب بالسلاح تارة، أو ببركات قداسة الشرفاء تارة أخرى. صراعات جنونية غاية في التوحش، كانت تحرق و تلتهم الأرض والبشر والشجر، في دورة تاريخية للموات الأبدي، من النهوض الى السقوط. كما فسر ذلك ابن خلدون في مقدمته. نوع من التكرار القهري الذي لا يرحم خواء الفرد والجماعة والمجتمع و الحاضنة الغابة. الرواية تورطنا في حرقة أسئلة الغابة في علاقتها بالتاريخ المغربي القديم والحديث، وما عانته من تحولات مروعة ومؤلمة، حينا، وسطوة وتجبر حينا آخر.ومع صفحاتها نقتحم الغابة باعتبارها عتبة الباب المحظور للتاريخ المغيب المنسي، والمسكوت عنه بفعل القوة والتسلط والطغيان الذي التهم بشراهة قصوى الغابة، كمجال حيوي تجذر فيه الانسان تاريخيا، برفقة الكثير من الكائنات الحية التي وجدت فيها حاضنتها الطبيعية الحية والحيوية والتاريخية. كما أن الرواية تحاول أن تفكك أسئلة الغابة من خلال أسس وآليات تشكل سلطة جدلية الحماية والاذعان. وذلك في محاولة من السارد فهم الكثير من المفارقات الرهيبة التي لا تزال تتصدر المشهد السياسي والمجتمعي، وتحرف زاوية نظر التحليل النقدي. وهذه المفارقات تجمع بين الرضى والسخط ، بين الموت في سبيل حفنة تراب، وتقديم كل الأرض خوفا وخضوعا لقداسة الشرفاء، بين التحكم والاستقرار، بين واجهة براقة وعمق غارق في وحل الوضاعة والمذلة والبؤس... إنها مخاضات حمل كاذب لولادة وهم القطيعة الفردية، الجماعية، والمجتمعية... 1- ما تخفيه المدينة تعريه الغابة نلج عوالم الرواية مع مجموعة من الشخصيات البنيوية المتجذرة في التاريخ (إبراهيم، سليمان، عبد الله، بريجيت، أم كلثوم...) التي تتجاوز بعدها الذاتي الفردي لتحيل على الكثير من الجذور والتاريخ والهوية والثقافة والتصورات والمعتقدات. ونتعرف من خلال هؤلاء على الشخصية الرئيسية، وهي الغابة كمحيط حيوي نابض، لا يخلو من جدلية الحياة والموت. الغابة حاضنة طبيعية تفاعلت وامتزجت، وتمفصلت فيها كل مستويات الفعل الاجتماعي والتاريخي والسياسي والثقافي والديني.حيث نكتشف هول المأساة التي تعيشها المدينة في قهرها وهدرها للإنسان والحيوان والغابة. وتصفيتها للكثير من الكائنات الحية التي تتوقف عليها روح الغابة في أن تكون أو لا تكون. " الغابة ليست فقط أشجارها التي تربط الأرض بالسماء، ولكن أيضا أرواحها. تلك الحيوات كلها التي لا معنى للغابة بدونها، ولا معنى لها إلا في الغابة."88 إنها مأساة تمتد عميقا في روح تاريخ الغابة التي تعرضت للحرائق والنهب والاتلاف والخراب والتدمير العشوائي المحكوم بالمصالح المادية الضيقة في فهمها ووعيها للغابة. هذه المصالح الجشعة غير مؤهلة أخلاقيا لمعرفة أن الغابة تمثل الوجه الحقيقي للحياة التي ينبغي تحصينها وحماية حرمتها، وإدراك قيمتها الوجودية ككائن حي ينبغي أن تشمله قوانين الحقوق المعترف بها دوليا، في عدم استباحة حياتها. "إن خطأ الانسان الفادح هو أنه اعتبر الأرض مجرد موارد، بينما هي كائن حي وككل كائن حي فإنها معرضة للقتل."98 وكانت الغابة ساحة وهدفا للحروب والصراعات، حتى صارت الأرض اليوم تهدد بالرحيل، والعواقب الوخيمة التي لن تستثني أحدا في انقلابها المروع والرهيب ضد كل التشوهات الجشعة والجنونية لحياة مدينة غارقة في التعاسة والقهر، تبعا لقوالب نمطية وجودية تخنق أمل الانفتاح، ورؤية الوجوه المختلفة للحياة والمصائر والمسارات. ما تخفيه واجهات المدينة البراقة، تبعا لاشتغال آليات السوق بالمعنى الرأسمالي، من سطوة وتسلط غارق في التوحش القهري في الاقتلاع والتهجير والتفكيك للأطر الطبيعية والبشرية والاجتماعية التقليدية. وما نتج عن هذا من تحويل للبشر والشجر والحيوان الى حطب ووقود للتمدن الزائف الزاحف كالتصحر على قيمة الانسان وروح النظام الايكولوجي الغابوي. كل هذاتعريه الغابة في محنتها الرهيبة، وهي تتخرب يوميا باسم القوانين الحديثة للدولة في الذبح الحلال للغابة واغتصاب خيراتها." انتهى زمن الحركة والحملات، فإن الغابة لم تعد مجالا للاقتتال، ولا ملكا للمقايضة. صارت مجرد ثروة مستباحة فقدت خيولها الوحشية وضواريها، وظبائها ووحيشها... صارت غابة خاوية، والغابة تموت حتما عندما تصبح خاوية"172 كل هذه البشاعة تعريها سيرة غابة المعمورة في تاريخها الشخصي وهويتها الذاتية والاجتماعية التاريخية، وفي جرحها النرجسي وهي تفقد أرواحها وجمالها الساحر الأخاذ، الباعث على التأمل والدهشة، والمحفز على التفلسف والابداع، كما مارسه إبراهيم مع صديقه سليمان. هذا ما تشتغل عليه الرواية بعميق فني جميل، وهي تفكر أدواتها ومنطق اشتغالها كمتخيل روائي. فمع إبراهيم نكتشف كل ما تخفيه المدينة وتتستر عليه من عنف وجشع وتدمير وقهر. ونتعرف على الوجوه المختلفة للمدينة، خاصة على مستوى البنى "العمرانية"أحياء الصفيح والبراريك، التي تشكل بسخرية لاذعة الوجه الحقيقي الفاضح و الفضائحي للدولة الحديثة التي عملت على تذرير المجتمع وتفكيك روابط أساطير متخيل جذور أصوله القديمة. "انتكاسة التحديث لا تؤدي فقط الى العجز عن العبور الى الضفة الأخرى، بل تؤدي الى العودة المأساوية قرونا الى الوراء"138. كل هذا كان يتم بمنطق وآليات سياسية لنظام الشيخ والمريد، الوضيع والشريف. دون أن يجد الفرد نفسه معنيا بالانخراط في مشروع مجتمع جديد يعبر حقيقة عن مفهوم الدولة الوطنية الحديثة. وبلغة طافحة بالسخرية تسجل الرواية كيف تحولت لعنة ولوثة البراريك الى مظهر حداثي في الاجتثاث والاقتلاع للجذور والأصول والهويات القاتلة، لتصهر الجميع في هويات جهنمية للحومة والدرب..."البراريك في نهاية المطاف هي أفضل شكل للدولة الحديثة، تذوب الهجرات وتدمج المتناقضات، وتقتل القبيلة أو تخدرها على الأقل... البراريك هي أول انتصار حداثي على القبيلة"191 وفي الرواية أيضا ندرك شيئا عميقا قلما ينتبه إليه الانسان وهو في الغابة. وهذا الشيء يتمثل في كون الغابة هي بمثابة الوجه العاري للمدينة في اقتلاعها للإنسان، وفك الارتباط بين الغابة وأرواحها" شعر أن هذه الشجرة التي يتكئ عليها الآن أخت تلك الشجرة وأنها تعرفه وتسمع ما بداخله...ألا يشعر الآن بامتلاء مبهج جراء ما ملأته الشجرة من فراغ في حياته منذ اقتلع من الغابة؟"130 هكذا مارست المدينة الاقتلاع والنهب والخراب والتدمير اللاعقلاني للعمق الايكولوجي المهدد بصمت العالم كما يقول إبراهيم، من خلال الفناء النهائي الذي يمكن أن يتعرض له النحل، وباقي الكائنات. 2- الفرد بين كوابيس القطيعة والثورة المستحيلة تقحمنا الرواية منذ صفحاتها الأولى في عوالم وهواجس وأسئلة شخصية إبراهيم، كفرد قلق مأزوم، بالمعنى الإيجابي لسؤال الأزمة. يخوض معركة الذات ضد الذات في سقوطها المخزي في نمطية القالب المرسوم من قبل المسيطرين على الوعي والمتحكمين في الادراك الى حد التملك لحياة الانسان فيما يشبه نوعا من الاسترقاق المستحدث. "كان إبراهيم متحمسا للتخلص من الحياة الزائفة ومن مجتمع الرغبات المفتعلة والأوهام"83 ضد هذا الواقع المرسوم والجاهز في أحلامه وأوهامه، انتفض إبراهيم كإطار بنكي راكم الكثير من الارتقاء الاجتماعي، والنجاح الرمزي و المادي. وفعّل بشكل حاسم موقفه النقدي والثوري إزاء واقع الإقامة البلهاء في التعاسة التي استوعبت واحتوت الناس الى درجة سلبت منهم الحرية والإرادة، والتحكم في حرية اختيار المسارات المرغوبة، والمصائر المتخيلة أو الواقعية. فقراره للاستقرار والعيش في الغابة وتربية النحل، كان من أجل الولادة من جديد.لهذا تمرد ضد هذا الواقع المديني الذي قام بقسوة عنيفة بتبخيس الرغبة الدفينة في جوف إبراهيم في أن يكون ويصير كفرد حر، وذات مستقلة منسجم مع ذاكرته وجسده في عيش الحياة كما يراها ويفهمها تبعا لحاجاته المادية والروحية، وليس من خلال الاستسلام القهري لوهم الانفصال عن كل ماكانه وعاشه في طفولته. فقد جعله وهم الانفصال يعتقد أن التنكر للهامش انتصار على وصمة السوء والحكرة التي ولدها بؤس الفقر والهوامش. "إنه ليس محبطا، يهرب من المدينة التي خذلته، ليرتمي في أحضان الطبيعة الأم، طلبا للمواساة أو سعيا وراء اندمال الجرح. إنه ليس مجروحا ولا يائسا، بل فقط مشبعا برغبة دفينة أن يذهب الى شيء بديهي، مسجل في ذاكرته وفي جسده"94 تنتصر الرواية لإبراهيم باعتباره يمثل ولادة متعسرة للفرد، المستقل في وجه الجماعة والمجتمع والدولة والثقافة السائدة، التي تطاولت مع القرون، فأخذت أبعادا ميتافيزيقية مفارقة للتاريخ. وهي تكبل الجميع في خندق الإجابات الجاهزة والحقيقة النهائية المقدسة. إزاء كل هذا الرعب من الجمود والتبلد والعجز المتوارث في إحداث التحولات الحاسمة والجذرية، يعلن إبراهيم بوضوح مفعم بالقناعة المبدئية على أنه من الوقاحة والسخرية القبول بالمسارات المرسومة من قبل صناع سياسات النجاح والعلو في الأرض والسماء، وفق إيقاع جنوني همجي وجهنمي في السحق والتخطي والدهس لنفايات البناء المشدود نحو سماء الأعالي، في سيرورة لا تهدأ ولا تعرف التوقف ولا الراحة أو الرجوع الى الوراء. ضد هذا كله يعلن إبراهيم القطيعة الكلية تجاه هذا الواقع الموبوء اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وصحيا وثقافيا. سواء في مستواه التبعي المتخلف وطنيا، أو على مستوى التوجهات الكبرى لخراب الأرض والكون، الذي تقاتل بهمجية قوى الرأسمال الامبريالي في سبيل إنجازه. لذلك قرر إبراهيم الهروب من سطوة هذه القوالب والاختيارات التي تتحكم في الانسان، وهي تحدد رؤيته للذات والآخرين والعالم، وأسلوب حياته ونمطه الوجودي الفاقد للحس والانفعال الطبيعي والإنساني، إزاء ما يهدد الحياة في جوهرها، وتجلياتها، وهي تتعامل مع الأرض كمصدر للموارد وليس ككائن حي. بناء على هذ الوعي الناضج انتصر إبراهيم للغابة التي اتخذها مكانا للحياة وليس فقط للعيش. حيث قام ببناء بيت تقليدي من الخشب والطين متخليا عن كل الامتيازات المادية، والنجاحات الرمزية التي نالها في مساره المهني. لقد حسم كل علاقاته المهنية والزوجية، كما تحرر من نمطية التفكير التراكمي للنجاحات والمكتسبات. فالتحق بالغابة رغبة في التوحد مع نفسه هروبا من عزلة المدينة التي أنهكته بجريها المحموم اللاهث وراء الربح والمكاسب المسعورة. "هذا الجهد الأليم في استعادة الجوهر، تبقّى لإبراهيم شعوران متضاربان، شعور بالفقدان وشعور عارم بالحرية، وهذا الأخير هو ما تحول تدريجيا إلى تلك اللهفة التي تصعد من الأحشاء، وهي مزيج من فرح ومن تحليق جذلان كلما هم بالتوجه نحو الغابة، لأن الأمر ببساطة يكون لحظتها إيذانا بالنجاة من العزلة، والعودة الى التوحد مع العناصر". 36 ووجد دعما وسندا في هذا التوحد الاختياري من طرف صديقته بريجيت التي طوحت بها هي الأخرى شروطها وظروفها وإحباطاتها الذاتية والعلائقية والمجتمعية. فانتصرت في علاقتها مع إبراهيم لروح الغابة كوجهة نظر أخرى للحياة تناقض النمط المديني الذكوري الاستهلاكي الكاسح والمهيمن. يمكن في هذه الرواية الحديث عن عسر ولادة الفرد في تجربة القطيعة التي حاول إبراهيم عيشها بشكل ملموس كتوجه اختياري في الحياة. وما رافق هذه التجربة من صعوبات وعوائق ومشاكل، لها ارتباطات بالبنيات الثقافية الاجتماعية المسيطرة، وما تفرزه من رؤى وتصورات ومعتقدات وأفكار غارقة في الجمود والتخلف القروسطي. كما لها ارتباطات بطبيعة السلطة السائدة، في تكريسها لكل هذه الظواهر السلبية، ومعاودة إنتاجها بمنطق وآليات التحكم التسلطي والقهر القمعي لتأبيد الاستقرار. وهذا ما يتجلى بوضوح في تدبيرها للحياة المجتمعية في المركز والهوامش المنبوذة والمنفية.ورفع يدها عما تتطلبه البيئية الغابوية من حماية وعناية واهتمام. هذه الجوانب المدينية غالبا ما كانت ترخي بظلالها، وتلقي بثقلها الى درجة كادت أن تعصف بهذه القطيعة الفردية التي أقدم عليها إبراهيم في خلخلة وزحزحة البديهيات والقوالب الممتدة في التاريخ أبا عن جد.فقد وجد إبراهيم نفسه في صراع مفعم بالتوترات والاذلال والمهانة كلما حاول الدفاع عن الغابة وأرواحها. حيث وجد أمامه مؤسسات فارغة المضمون. حيث "مداخيل الغابة الحديثة تحط الرحال في أحضان منتخبين... صارت لهم سيارات رباعية الدفعومحطات بنزين"172 هؤلاء المسؤولون مهمتهم إنتاج الوضاعة والاحتقار، والبساطة المقرفة الباعثة على الحكرة الى حد المسح والسحق الوجودي لكل الذين يدعون وهما وتخيلا، أو حقيقة وواقعا الدفاع عن الكرامة الإنسانية، وحماية ليس الغابة فقط، بل أيض أرواحها. وقد كافحت بريجيت في هذا الاتجاه على المستويات الرسمية والجمعوية والإعلامية، بما في ذلك على صفحات التواصل الاجتماعي. "بريجيت دأبت على تصوير الأشجار المقطوعة، ووضعها في صفحتها على الفيسبوك. كانت تريد أن يعرف العالم كله أن المعمورة تتعرض لاغتيال بطيء، وأنها ستختفي ذات يوم تاركة خلفها قرى مرتجلة، لا شيء يمكنه إيقاف هذا التلاشي"172 في لحظة لم تكن واردة في حسبان إبراهيم وهو يمارس قطيعته كارتماء روحاني في الغابة، وليس كهارب لاجئ من جراحات التمدن العاري، وجد نفسه، وهو يحاول الدفاع عن حياة النحل،متورطا في مستنقع سياسات المدينة التي كان يعتقد وهو في الغابة بحدود ومحدودية سطوتها وقهرها، ومدى انتشار لوثة عدواها في تخريب المحيط الغابوي بكل أنوع السموم والمبيدات، التي قتلت الكثير من النحل الذي هو مشروع حماية الغابة الحياة بالنسبة لإبراهيم. دون أن ننسى التعفن العطن لسياسات المدينة في علاقتها بالأشياء والعلاقات والأشخاص والمحيط البيئي" شيئا فشيئا تحول تدبير النحل من صلاة في محراب الطبيعة، الى مصارعة لطواحين الهواء... جمع علب المبيدات الفارغة ... والذهاب بعينات منها الى رؤساء الجماعات، والى السلطات المحلية، ثم الإقليمية، ثم الوطنية... أصبح الجلوس في قاعات الانتظار، والمثول بين يدي مسؤولين ساخرين متغطرسين جزءا لا يتجزأ من الحياة في الغابة"188 لكن سرعان ما انتبه إبراهيم الى هذه الورطة الخطيرة التي أوشكت على تخريب موقفه الثوري في عيش حياة أخرى بديلة لكل ما استسلم له منذ الطفولة من أحكام وأفكار جاهزة، ونقيضة لما يتبلور في دواخله من ميولات ورغبات وأفكار وحب لما شكل حياته في حي الضبابة الشعبي والبائس بتيفلت. لقد كان مقتنعا كل الاقتناع بالقطيعة التي أقدم عليها، باعتبارها حقا فرديا في الولادة من جديد للفرد المستقل الذي يحمله في أعماقه العميقة. وذلك انسجاما مع إدراكه بأن " الحياة حكاية فردية بحتة، حتى لو شاركتها مع الآلاف... على يقين بأنني لم أنضج في حياتي فكرة كما أنضجت فكرة هذه القطيعة" 319و320 لقد ترك إبراهيم كل ذلك الرخاء والنجاح الذي ناله خلال مساره المهني. وقام بقطيعة ثورية ضد حياة لم تكن كما الحياة الكامنة في أعماقه، والتي تخلى عنها تحت ضغط سطوة خطاب حياة النجاح المستمر على حساب البسطاء. فكرة هذا التحول الحاسم كانت متجذرة في الذات. وقد حالت بينه وبينها التمثلات والتصورات السائدة لحياة ناجحة، مع تبخيس واحتقار لحياة الفئات الاجتماعية التي ترزح تحت عبء الوضاعة ولعنة الهوامش، والبؤس النابع من البدائية المهينة، كما تصفها ثقافة الارتقاء الاجتماعي.فهو يرى في قطيعته ما يشبه الثورة الحقيقية". سأشارك عندما أبرأ من أوجاع الوضاعة في ثورة ما، أليس لكل واحد من الخلق نصيبه من ثورة أو من أوهامها؟... هل استطاعت الماركسية أو القومية أو حتى الظلامية الدينية أن تفعل شيئا بهذا الحسم الثوري؟ الثورة الوحيدة التيتستحق هذا الاسم هي التي يقوم بهافرد واحد ضد العالم أجمع"320 لكن هذه القطيعة الثورية المستحيلة لم تكن لتخلو من مشاكل وتحديات وكوابيس، كانت وراءها الامتدادات العميقة والكاسحة لثقافة القالب، ولسياسة التحكم التي تحدد مسارات الناس، وترسم مصائرهم، بنوع من القدرية، والحتمية التي يصعب جدا في ظل سطوتها وتسلطها، خوض مثل هذه القطيعة، أو التفكير في ثورة من هذا القبيل. وهذا ما ورط إبراهيم في محنة كوابيس وهلوسات الاعتقال. وقد مس لهيبها المرعب صديقه سليمان، وهو يعاني آلام غياب أو اختطاف صديقه إبراهيم، الى جانب الكثير من الأصوات الحرة، التي أعلنت قطيعتها، أو ثورتها الفردية بشكل أو بآخر. "تصاعد حالات اعتقال ومحاكمات، جلها لصحفيين أو مدونين أو ناشطين حقوقيين، وكلها حالات تملصت من صفتها الحقيقية كمحاكمات رأي، واتخذت شكل تلبس في قضايا جنسية أو قضايا السكر العلني والتحرش والخيانة الزوجية والتهرب الضريبي"295 هكذا نكتشف حدود ومحدودية هذه الثورة المستحيلة. حيث تجد مثل هذه القطيعة نفسها غارقة في الكثير من آلام وعذابات الكوابيس النفسية والجسدية التي عاشتها كل شخصيات الرواية بتفاوت في الوعي والتقبل والاعتراف بسقفها الذاتي في الولادة من جديد. ذلك أنه بمجرد أن تكون، أو تفكر أنك فرد حر مستقل، فأنت تضع نفسك خارج القانون. "السلطة لا تحب هذه الانقلابات الشعرية.. ترى أن وراء ذلك يوجد دائما شيء ما.. هذه التحولات يمكن أن تقوم بها في السويد، فتحسب على ذكائك، وعلى قدرتك على التكيف، هنا إذا دخلت في نفق، فيجب أن تبقى فيه، فإذا حفرت مهربا، فإنك لست على ما يرام"294 يدرك إبراهيم ومن معه من الأصدقاء بريجيت وسليمان وأم كلثوم أن العالم تغير كثيرا، وأن المغرب بدل زمانه ومكانه وأناسه. ولم يعد جنوبا ولا شرقا خاملا جامدا كما كان. لقد صار غربا مليئا بالمفارقات والخوارق المرعبة، كطريقة لتجاوز الواقع بالخيال المجنح، مثلما تفعل القنافذ وهي تحلق في سماء العاصمة. فتكبر الأسئلة في وجه قطيعة ابراهيم وثورته المعزولة عن إيقاع التحولات المجتمعية التي تعصف بكل مسوغات الهروب الفردي" أليس الأجدر بي أن ألتحق بانتفاضة الحسيمة... نقول دائما لا يحدث شيء وعندما يحدث نتركه وحيدا في مواجهة الجبروت"242. عندها تبدو القطيعة الفردية والمقاطعة الاجتماعية مجرد خيالات حمراء غضبا على الشاشة، لكنها بيضاء مفعمة بالرضى على أرض الواقع. "المقاطعة كان قد أدرك أن هناك تفاوتا مريعا بين العرض في مشاعر الغضب والتعبير السياسي عن هذه المشاعر، فالسياسة مليئة بالرضى، والحياة مليئة بالغضب، كل شيء يبدو سهلا، تكفي فيه شرارة صغيرة في الفيسبوك، وكل شيء يبدو مستحيلا عند الانتقال من الشاشة الى الواقع"244 3-سيرة غابة: المعمورة في التاريخ وأنت تقرأ رواية "من خشب وطين" تكتشف بفرح عارم أنك أمام سيرة غابة، إنها سيرة المعمورة في التاريخ. والجميل أن تفكر الرواية في هذا الاتجاه المتعدد الأبعاد والمستويات للاهتمام بالغابة. سواء على خلفية أننا جزء عضوي من الطبيعة، وبالتالي فما يهدد الغابة يهددنا، وما يحميها هو حماية لنا. فقلما تنبه الناس على أنهم جزء من الطبيعة وليس خارجها. أو تم تناول الغابة من زاوية التاريخ المنسي والغامض والمحظور الذي يصعب فهمه وإنتاج معرفة به دون استحضار الغابة في هذا التاريخ الذي كانت فيه بمثابة البنية الأساس التي تولدت انطلاقا منها الكثير من أشكال الوجود الاجتماعي والانتظام الإنساني في علاقة مع أرواح الغابة وثرواتها الرمزية والمادية. الرواية تفتح هذا الباب المحظور للحكايات، وتنتهك الصمت والنسيان الذي طال وجها آخر حقيقيا للحياة بمعناها الشامل والحقيقي، كما غيب وجها آخر للإنسانية في علاقتها بالأرض بمن وما فيها من مخلوقات. هكذا نتعرف على غابة المعمورة في التاريخ، في الصراع على الأرض والسلطة بين مختلف القبائل، خاصة بين قبيلة زمور وقبيلة بني حسين. وكيف كانت القاعدة الأساس للسيطرة والهيمنة على المجال والانسان، ومنبعا للنفوذ والقوة والتحكم في السلطة، أو في التمرد عليها. سواء كانت سلطة القبيلة أو سلطة الشرفاء الحاكمين. والجميل في هذه السيرة أننا نعرف بأن للغابة أسئلتها الحارقة في علاقتها مع نفسها وهي تعيش جدلية الموت والحياة. حين تخرج هي وأرواحها من رماد الحرائق بقلب مظلم، أو حين تجد نفسها، وهي تجدد ذاتها بسلام، وبمتعة كبيرة، وتؤرخ للحروب القبلية الغارقة في التوحش الدموي. "المعمورة يقول إبراهيم تاريخ معقد من الاختفاء والظهور. كلما عم السلام أخذت الغابة في الاندثار، وكلما اشتعلت الحروب حولها، استعادت هدوءها وتفرغت لإعادة إنتاج نفسها بكل أمان"224 هكذا تنخرط الغابة في السيرورة التاريخية الطبيعية والبشرية. حاملة ومعنية بأسئلة الحرب والسلم، أسئلة النهب والحرائق، أسئلة اللجوء والتمرد، أسئلة الخوف والعبور، أسئلة بروز الخدام والمحاربين والشرفاء، وولادة السلطة الغريبة الآتية من بعيد. كل هذا تأتي عليه الرواية بنفس حكائي مثير للاهتمام والتفكير في الكثير من القضايا والاسئلة، التي قد تزيل الكثير من الالتباسات التي تكتنف المفارقات المتجذرة في تاريخ المجتمع المغربي. ولا تزال تطرح نفسها بإلحاح كبير في وجه الباحث والمهتم بقضايا المجتمع والتاريخ والثقافة والدولة... والمأساوي في سيرة غابة معمورة هو أنها صارت مجرد هامش في وقت كانت فيه عبر التاريخ المركز الأساس لأي تحول نوعي في المجال، وعتبات للعبور الرئيسية عبر مفاصل البلاد. فبعد ماضيها الحافل بالوقائع والأحداث والحكايات الرهيبة، والبطولات والأمجاد، والخوف والرعب. وكممر أو حافة للموت قلما يتجرأ عليها الفرسان. وجدت المعمورة نفسها مجرد مورد، ومرتعا للصوصية والاغتناء غير الشرعي. وجثة هامدة بلا أرواح تنتظر الافتراس المتعدد الأساليب والأهداف. والأخطر من هذا كله أنها صارت مجرد عورة خلفية عارية وبئيسة لواجهة المدينة البراقة. "القاعدة هي الاحتفاظ بالأبهة لمغرب الواجهة، وبالتدهور للمغرب العميق، نوع من حماية الوضاعة من الانقراض، الوضاعة شرط من شروط الحكم"164 وما لم تأت عليه التحولات العنيفة والمؤلمة التي تعرضت لها الغابة، في سيرورتها التاريخية، خلال الحروب القبلية، أو في ظل الاستعمار الفرنسي الذي أجهز على غابة الفلين في مجزرة مروعة أنهى فيها حياة الآلاف من أشجار الفلين. وما تبقى من أرواحها وجمالها تكفلت به الحرائق والجفاف والشركي. وجشع المدينة فيالصراع الذي دار بين الفحامين واللحائين" الفريقان معا تقاتلا على الأشجار وقتلوا معظمها، الدباغة تطلب لحاء الفلين، والمدينتان الكبيرتان تطلبان الفحم للطبخ والتدفئة، وكل شيء من المعمورة"221 4- أصل السلطة: جدلية الإذعان والحماية لم يكن ممكنا للسارد أن يعبر الغابة حكائيا وسرديا دون أن تنال منه حرقة أسئلتها. ويحترق بالكثير من الشظايا التي لاتزال ساخنة ملتهبة في وجه من يتجرأ على اختراق الباب المحظور للحكايات القابعة في جوف بركان التاريخ المغيب والمنسي والمسكوت عنه في كتب التراجم والمناقب والنوازل، وتاريخ الحروب والعائلات ذات الشرف الرفيع. فتقليب الجمر كان لا بد أن يؤدي بالسارد الى مواجهة سؤال الأسئلة حول سر استمرار مفارقات الاستقرار بلغة التحكم، وبتوسط من متخيل العجيب الخارق، و الغريب المدهش، و الساحر الخلاب، في عالم يتغير باستمرار في صيرورة لا تعرف الرجوع الى الوراء أو التوقف. لذلك توقف السارد طويلا وبصورة عميقة، أثناء تأمله لسيرة الغابة والمدينة في التاريخ،حول كيفية تشكل السلطة، كإطار للوحدة يضمن تأسيس المشترك بين القبائل المتحاربة. وكيف كان للغريب دور ساحر في ولادة جدلية الإذعان والحماية بين المحكوم والحاكم. وذلك انطلاقا من توسط أيديولوجي ديني، نابع من متخيل قداسة الشرفاء كشرط معرفي في خصائصه الدينية والعرقية السلالية تميز به هؤلاء. الشيء الذي أهلهم لتكوين سلطة ومجتمع لا يقومان على القسر فقط، بل اعتمادا على فرض الهيمنة- بالتعبير الغرامشي- من خلال توسط السلالة الشريفة، التي يضمن الإذعان والخضوع مقابل الحماية. هذا الوضع الغريب في ولادة السلطة والمجتمع، هو ما فجر أسئلة السارد وهو يعود الى التاريخ في محاولة فهم السياقات والترابطات الشديدة التعقيد والتناقض التي تجمع بين الشراسة والاذعان." لا أحد يمكنه أن يفهم هذه الشراسة والأنفة والكبرياء كلها مجتمعة في كيان واحد مع هذا الإذعان الأعمى للسلالة، منذ وضعت قبيلة أوربة سطوتها كلها في خدمة رجل وحيد ... فما هي الحكمة في هذا التبرع بأراض شاسعة للشريف دون حتى أن يدقق أحد في نسبه. والحال أن المتبرعين أنفسهم يشعلون حروبا طاحنة لنزاع بسيط حول الحدود بين هذا التراب أو ذاك أو هذا الماء أو ذاك"145 لا يحاول السارد أن يجد أجوبة لأسئلة تتحداه وتقض مضجعه بين عالم يتغير وينقلب رأسا على عقب بالتحولات والانتفاضات والثورات الاجتماعية والمعرفية والعلمية. بالموازاة مع ذلك يعيش في ظل واقع اجتماعي تاريخي تهزه الخوارق والمعجزات والرؤى الخيالية الجامحة، والأفكار الغرائبية المفعمة بالإيمان والتصديق الأعمى. بل والاستعداد للموت في سبيلها. لهذا كانت الرواية طافحة بالسخرية في وجه جدلية الإذعان والحماية التي كرست القبول والتقبل والاعتراف بعرق ساحر يستحق الخنوع والخضوع الذاتي. "كان لديه شعور مبهم بأن هذا الشعب لم يفقد جزءا كبيرا من الغابة فحسب، بل فقد بعضا من روحه، لا يعرف كيف حصل ذلك، ربما بسبب المخاطر الدائمة... أو فقط بسبب التسليم بأن هناك سلالة صافية، لا بد أن يسلموا لها قياد أنفسهم"144 هكذا كان لقداسة السلالة الشريفة دور كبير في تشكل بنية جدلية الإذعان والحماية. فعاشت القبائل في ظل هذا التوسط المعرفي الديني كإيديولوجيا نوعا من الخضوع والاذعان الذاتي، وليس القسري فقط. وقد وصل الأمر بالناس الى حد التبرع بمحاصيلهم الزراعية، وبالماشية أيضا. والأخطر من هذا كله أنهم تبرعوا بالأرض لصالح الشرفاء الى أن صار هؤلاء من ملاك الأراضي الكبار." أصبح للشريف من الأرض ما لا يوجد لدى أي واحد من أفراد القبيلة"141 بناء على هذا تبلور تاريخ الإذعان والطاعة، وتوليد ذهنيات الخوارق والغرائب والسعي وراء قداسة البركات، ونيل رضى الأضرحة والأولياء. تبعا لهذا الشرط المعرفي في الاعتقاد في صفاء السلالة النابعة من النبي تشكلت سلطة المخزن، بالإذعان تارة والقسر تارة أخرى." إن كل عبقرية السلطة في بلادنا أنها كانت دائما آلة ضخمة لتفريخ الطاعة، هل ترى هذه الغابة التي تحتضر؟ لقد عبرتها حملات المخزن مئات المرات، لتتوجه صوب قبائل الجبال، ليس لأن هذه الأخيرة أعلنت انفصالا عن الدولة، أو دعت الى تأسيس إمارة مستقلة، بل فقط لأنها حرة في تلك الجبال المنيعة، والمخزن يريدها أن تكون مطيعة خاضعة بالدفع والتسليم".181 فكانت كتب مؤرخي السلطة مملوءة بالشراسة والقسوة والقتل الرهيب من طرف السلطة للناس، كما لو كانت تحكي بطريقة عادية وشرعية "عن غارات على محتل أجنبي"336. في ظل هذه السياقات العميقة الجذور في التاريخ، التي تؤطر جدلية الإذعان والحماية، وجد إبراهيم نفسه متورطا من حيث لا يحتسب في توحده الفردي وسط الغابة، في دهاليز التبريك والقداسة كفخ جاهز للولاء والعودة الى النفق والقالب المرسوم كما تبتزه السلطة. أو الغرق في كوابيس التحريض والتهمة الجاهزة بالعصيان والتمرد، وبالتالي اختطافه ووضعه في صمت السجن.
مشاركة :