وقفات: عذاب الله وعذاب الرحمن

  • 7/29/2022
  • 01:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم‭: ‬عاطف‭ ‬الصبيحي   يصوغ‭ ‬المستشرق‭ ‬الفرنسي‭ ‬وليم‭ ‬مرسيه‭ ‬فتنته‭ ‬بالعربية‭ ‬بصياغة‭ ‬أدبية‭ ‬رائعة‭ ‬فيقول‭: ‬العبارة‭ ‬العربية‭ ‬كالعود‭ ‬إذا‭ ‬نقرت‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أوتاره‭ ‬رنت‭ ‬لديك‭ ‬جميع‭ ‬الأوتار‭ ‬وخفقت،‭ ‬ثم‭ ‬تُحرك‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬حدود‭ ‬المعنى‭ ‬المباشر‭ ‬موكباً‭ ‬من‭ ‬العواطف‭ ‬والصور‭. ‬ولعلّ‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬جذبني‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬وليم‭ ‬هذا‭ ‬قوله‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬المتحركة‭ ‬والعواطف‭ ‬المُتخلقة‭ ‬فيما‭ ‬وراء‭ ‬المعنى‭ ‬المباشر،‭ ‬إنها‭ ‬لحقيقة‭ ‬واقعية‭ ‬يعرفها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قرأ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬فكيف‭ ‬بالذي‭ ‬قرأ‭ ‬القرآن‭ ‬قراءة‭ ‬متأنية‭ ‬واعية،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬يصادق‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬وليم‭ ‬بلا‭ ‬تردد،‭ ‬لأنه‭ ‬عاش‭ ‬تلك‭ ‬العواطف‭  ‬وعايش‭ ‬لحظة‭ ‬توليدها‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬بعد‭ ‬تعقلها‭.‬ يقول‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬47‭ ‬من‭ ‬الأنعام‭ ‬‮«‬قل‭ ‬أرأيتكم‭ ‬إن‭ ‬أتاكم‭ ‬عذاب‭ ‬الله‭ ‬بغتة‭ ‬أو‭ ‬جهرة‭ ‬هل‭ ‬يُهلك‭ ‬إلا‭ ‬القوم‭ ‬الظالمون‮»‬،‭ ‬ويرد‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬45‭ ‬من‭ ‬مريم‭ ‬‮«‬يا‭ ‬أبتِ‭ ‬إني‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬يمسك‭ ‬عذاب‭ ‬من‭ ‬الرحمن‭ ‬فتكون‭ ‬للشيطان‭ ‬وليا‮»‬‭. ‬فهناك‭ ‬عذاب‭ ‬منسوب‭ ‬لله‭ ‬وآخر‭ ‬منسوب‭ ‬للرحمن،‭ ‬في‭ ‬الأنعام‭ ‬التحذير‭ ‬أشد‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬مريم‭ ‬فقال‭ ‬‮«‬أرأيتكم‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬جيء‭ ‬بحرف‭ ‬الخطاب‭ ‬‮«‬كم‮»‬‭ ‬مع‭ ‬ضمير‭ ‬الخطاب،‭ ‬وهذا‭ ‬يفيد‭ ‬التوكيد‭ ‬والزيادة‭ ‬في‭ ‬التنبيه،‭ ‬فتكون‭ ‬‮«‬أرأيتكم‮»‬‭ ‬أشدُّ‭ ‬من‭ ‬‮«‬أرأيت‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬الناحية‭ ‬الثانية‭ ‬فإن‭ ‬اسم‭ ‬الرحمن‭ ‬يمثل‭ ‬ربوبية‭ ‬الله‭ ‬سبحانه،‭ ‬ومن‭ ‬معاني‭ ‬الربوبية‭ ‬التربية‭ ‬والإرشاد‭ ‬والتوجيه‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬العذاب،‭ ‬لذلك‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬مريم‭ ‬‮«‬يمسّك‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬دون‭ ‬المباشرة‭ ‬فيكفي‭ ‬في‭ ‬‮«‬المس‮»‬‭ ‬اتصال‭ ‬ما‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬متحقق‭ ‬في‭ ‬مريم،‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬خفيف‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬الردع،‭ ‬ومما‭ ‬يدلل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭ ‬‮«‬عذاب‭ ‬من‭ ‬الرحمن‮»‬‭ ‬بصيغة‭ ‬التنكير،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬الأنعام‭ ‬قال‭ ‬‮«‬عذاب‭ ‬الله‮»‬‭ ‬منسوباً‭ ‬لله،‭ ‬تلك‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬عناها‭ ‬المستشرق‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وما‭ ‬تُخلقه‭ ‬من‭ ‬عواطف‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭.‬ ‭ ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬الإمعان‭ ‬في‭ ‬التحذير‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬الأنعام‭ ‬‮«‬بغتة‭ ‬أو‭ ‬جهرة‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يورده‭ ‬في‭ ‬مريم،‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬آية‭ ‬الأنعام‭ ‬‮«‬هل‭ ‬يُهلك‭ ‬إلا‭ ‬القوم‭ ‬الظالمون‮»‬‭ ‬عذاب‭ ‬استئصالي،‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬مريم،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬السياق‭ ‬الكامل‭ ‬للسورتين‭ ‬فإن‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الله‮»‬‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الأنعام‭ ‬سبع‭ ‬وثمانون‭ ‬مرة،‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬فيها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الرحمن‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬ورد‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الرحمن‮»‬‭ ‬ست‭ ‬عشرة‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مريم،‭ ‬التي‭ ‬تصدرت‭ ‬سور‭ ‬القرآن‭ ‬ببث‭ ‬الرحمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الاسم،‭ ‬فناسب‭ ‬كل‭ ‬سياق‭ ‬التعبير‭ ‬المناسب‭.‬ ‭ ‬في‭ ‬الأنعام‭ ‬الآية‭ ‬مئة‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬‮«‬وجعلوا‭ ‬لله‭ ‬شركاء‭ ‬الجن‭ ‬وخَلَقَهم،‭ ‬وخرقوا‭ ‬بنين‭ ‬وبنات‭ ‬بغير‭ ‬علم‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬عما‭ ‬يصفون‮»‬‭. ‬لماذا‭ ‬الخرق‭ ‬وليس‭ ‬الاختلاق‭ ‬وهما‭ ‬قريبان‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬المعنى؟‭ ‬يلتقي‭ ‬الخرق‭ ‬مع‭ ‬الاختلاق‭ ‬بمعنى‭ ‬الكذب‭ ‬والافتراء،‭ ‬لكن‭ ‬الخرق‭ ‬يزيد‭ ‬عليه‭ ‬بمعنى‭ ‬إضافي‭ ‬هو‭ ‬الفساد‭ ‬والحمق،‭ ‬ويُقال‭ ‬رجل‭ ‬أخرق‭ ‬أي‭ ‬جاهل،‭ ‬وهو‭ ‬أنسب‭ ‬تعبير‭ ‬لمن‭ ‬قال‭ ‬كذباً‭ ‬وافتراءَ‭ ‬بأن‭ ‬لله‭ ‬بنين‭ ‬وبنات‭ ‬وبقصد‭ ‬الفساد‭ ‬على‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬من‭ ‬الحمق‭ ‬والجهل،‭ ‬وهذا‭ ‬يؤيده‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ ‬بنفس‭ ‬الآية‭ ‬‮«‬بغير‭ ‬علم‮»‬‭.‬ وقفتنا‭ ‬الأخيرة‭ ‬مع‭ ‬رائعة‭ ‬من‭ ‬روائع‭ ‬المصحف‭ ‬الشريف،‭ ‬ففي‭ ‬الآية‭ ‬157‭ ‬من‭ ‬الأنعام‭ ‬‮«‬فمن‭ ‬أظلم‭ ‬ممن‭ ‬كذّب‭ ‬بآيات‭ ‬الله‭ ‬وصدف‭ ‬عنها‭...‬‮»‬‭ ‬وقوله‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬ومن‭ ‬أظلم‭ ‬ممن‭ ‬ذُكر‭ ‬بآيات‭ ‬ربه‭ ‬فأعرض‭ ‬عنها‭ ‬ونسي‭ ‬ما‭ ‬قدمت‭ ‬يداه‮»‬‭ ‬57‭ ‬الكهف،‭ ‬الصدف‭ ‬والإعراض‭ ‬كلاهما‭ ‬يتضمنان‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬لكن‭ ‬الصدف‭ ‬أشد‭ ‬وأقوى‭ ‬وأعتى‭ ‬من‭ ‬الإعراض،‭ ‬فالصدف‭ ‬معناه‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬الجبل‭ ‬وصلابته،‭ ‬فهو‭ ‬يعني‭ ‬جانب‭ ‬الجبل،‭ ‬فالإعراض‭ ‬في‭ ‬‮«‬صدف‮»‬‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الإعراض‭ ‬في‭ ‬‮«‬أعرض‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الأنعام‭ ‬قرن‭ ‬بين‭ ‬التكذيب‭ ‬والصدف‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬الكهف‭ ‬قرن‭ ‬بين‭ ‬التذكير‭ ‬والإعراض‭ ‬وما‭ ‬ترتب‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تباين‭ ‬في‭ ‬العقوبة،‭ ‬فالصادف‭ ‬جزاؤه‭ ‬سوء‭ ‬العذاب‭ ‬‮«‬سنجزي‭ ‬الذين‭ ‬يصدفون‭ ‬عن‭ ‬آياتنا‭ ‬سوء‭ ‬العذاب‭ ‬بما‭ ‬كانوا‭ ‬يصدفون‮»‬‭. ‬

مشاركة :