بقلم: عاطف الصبيحي يصوغ المستشرق الفرنسي وليم مرسيه فتنته بالعربية بصياغة أدبية رائعة فيقول: العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تُحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. ولعلّ أهم ما جذبني في قول وليم هذا قوله عن الصور المتحركة والعواطف المُتخلقة فيما وراء المعنى المباشر، إنها لحقيقة واقعية يعرفها كل من قرأ الأدب العربي، فكيف بالذي قرأ القرآن قراءة متأنية واعية، فلا بد أنه يصادق على قول وليم بلا تردد، لأنه عاش تلك العواطف وعايش لحظة توليدها في الوجدان بعد تعقلها. يقول الحق سبحانه في الآية 47 من الأنعام «قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يُهلك إلا القوم الظالمون»، ويرد في الآية 45 من مريم «يا أبتِ إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا». فهناك عذاب منسوب لله وآخر منسوب للرحمن، في الأنعام التحذير أشد منه في مريم فقال «أرأيتكم» حيث جيء بحرف الخطاب «كم» مع ضمير الخطاب، وهذا يفيد التوكيد والزيادة في التنبيه، فتكون «أرأيتكم» أشدُّ من «أرأيت»، هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية فإن اسم الرحمن يمثل ربوبية الله سبحانه، ومن معاني الربوبية التربية والإرشاد والتوجيه مع وجود العذاب، لذلك قال في مريم «يمسّك» وهو دون المباشرة فيكفي في «المس» اتصال ما, وهو كذلك متحقق في مريم، أي شيء خفيف من العذاب كنوع من الردع، ومما يدلل على ذلك أيضاً قوله سبحانه «عذاب من الرحمن» بصيغة التنكير، بينما في الأنعام قال «عذاب الله» منسوباً لله، تلك واحدة من الصور التي عناها المستشرق الفرنسي، وما تُخلقه من عواطف في الوجدان. ومن باب الإمعان في التحذير قال في الأنعام «بغتة أو جهرة» وهذا ما لم يورده في مريم، وقال في آية الأنعام «هل يُهلك إلا القوم الظالمون» عذاب استئصالي، ولم يرد مثل هذا في مريم، ومن خلال السياق الكامل للسورتين فإن اسم «الله» ورد في الأنعام سبع وثمانون مرة، ولم يرد فيها اسم «الرحمن»، بينما ورد اسم «الرحمن» ست عشرة مرة في مريم، التي تصدرت سور القرآن ببث الرحمة من خلال هذا الاسم، فناسب كل سياق التعبير المناسب. في الأنعام الآية مئة يقول الله سبحانه وتعالى «وجعلوا لله شركاء الجن وخَلَقَهم، وخرقوا بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون». لماذا الخرق وليس الاختلاق وهما قريبان جداً في المعنى؟ يلتقي الخرق مع الاختلاق بمعنى الكذب والافتراء، لكن الخرق يزيد عليه بمعنى إضافي هو الفساد والحمق، ويُقال رجل أخرق أي جاهل، وهو أنسب تعبير لمن قال كذباً وافتراءَ بأن لله بنين وبنات وبقصد الفساد على ضرب من ضروب من الحمق والجهل، وهذا يؤيده قوله تعالى بنفس الآية «بغير علم». وقفتنا الأخيرة مع رائعة من روائع المصحف الشريف، ففي الآية 157 من الأنعام «فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله وصدف عنها...» وقوله تعالى «ومن أظلم ممن ذُكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه» 57 الكهف، الصدف والإعراض كلاهما يتضمنان الابتعاد عن الحق لكن الصدف أشد وأقوى وأعتى من الإعراض، فالصدف معناه قادم من الجبل وصلابته، فهو يعني جانب الجبل، فالإعراض في «صدف» أقوى من الإعراض في «أعرض»، وفي الأنعام قرن بين التكذيب والصدف بينما في الكهف قرن بين التذكير والإعراض وما ترتب عليه من تباين في العقوبة، فالصادف جزاؤه سوء العذاب «سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون».
مشاركة :