تندرج هذه المقاربة النقدية ضمن مشروع الباحثة الأكاديمي والإبداعي المتعلق بأدب الصحراء (أشعارها وسردياتها الشفاهيّة وتواريخها الثقافيةّ). لقد تناولت الروائية والباحثة المصرية ميرال الطحاوي ثقافة الصحراء في أطروحتها النقدية (محرمات قبلية، المقدَّس وتخيلاته في المجتمع الرعوي روائيًا)، 2008، معترفة بكون مصطلح (روايات الصحراء) فضفاضًا وغير محدَّد. وعرَّفت الصحراء ثقافيًا بكونها «وعاء ثقافيًا خاصًا وعالمًا شديد الانحياز إلى عزلته، وتراثه وقيمه وأعرافه، فهي فعليًا تحكمها أعراف مقدسة مثل كلّ المجتمعات البدائية التي يشكَّل فيها العرف أو التابو قانونًا لمقدسات، وهو مجتمع يتكئ على الطقس الأسطوري في تفسيره للأحداث الكونية، وهو مجتمع مغلق يهاب المدنية، وعراكه الأساسي لا ينبني على أساس طبقي، وإن كانت له تقسيماته الطبقية الحادة»، وتحدَّثت الطحاوي عن رواية الصحراء العربيّة» بأنَّ رواية الصحراء العربيّة مرتبطة بالعالم الرعوي القبلي العربي ومعبِّرة عنه كما شكَّلت (الهوية الثقافية البدوية) موضوعًا لكتابها (الأنثى المقدسة، أساطير المرأة في الصحراء)، 2019. ويمثل كتاب الطحاوي (بنت شيخ العربان)، 2020 التأسيس الثقافي والمرجعي الأول لكتابها (بعيدة برقة على المرسال)، 2020 المتعلق بالتاريخ الثقافي والشفاهي للعربان في مصر. ويشتغل كتاب (بعيدة برقة على المرسال) على أدب الصحراء العربيّة، وبالتحديد أشعار الحب في التراث النسائي البدوي (شعر غناوة العَلَم) في صحراء مصر الغربية وإقليم برقة الليبي. إنَّ الذي يميّز هذه الدراسة النقدية هو الآتي: • جدة موضوع الدراسة وطرافته؛ ففي حكم النادر المقاربات النقدية العربية المشتغلة على أدب المرأة العربيّة البدوية الشعبي (من الشعر الشعبي بكافة أنواعه وتصنيفاته الأجناسية إلى المرويات السردية الشعبيّة النسائية). وتمثِّل أشعار الغزل والبوح النسائي واحدة من أكثر أنواع الأدب النسائي جاذبية لكونها داخلة في خطاب المحظور والمسكوت عنه على الرغم من أهمية هذه المدوَّنة في الذاكرة الثقافيّة العربيّة. ولقد أشارت الباحثة إلى انتباه بعض الدراسات الأكاديمية العربية الحديثة إلى التراث النسائي الشفاهي، ولإبداع المرأة في المجال الفلكلوري والإبداع الشفهي، بخاصة تلك الدراسات الجندرية التي تهتم باللغة بوصفها تعبيرًا عن الهوية الجندرية. • تدوين ذاكرة الحب النسوية البدوية: جمعت الباحثة بين سرد السيرة الذاتية وسرد تاريخ المكان (الصحراء) في علاقته بالمرأة البدوية من خلال الجمع الميداني الحقلي الذي مارسته الباحثة، وهي تدوِّن أشعار (شعر غناوة العَلَم) التي تردَّدت على ألسنة عدد كبير من النساء البدويات لقد أسهمت الباحثة في جمعها الميداني وحديثها عن سيرة المكان الذاتية (الصَّحراء) في علاقته بالمرأة في تأسيس الخرائط الثقافية والتاريخ الثقافي لظهور هذا النوع الشعري (أشعار الحب النسائي البدوي)، مما يساعد على دراسته جماليًا وثقافيًا، واكتشاف أنساقه الكامنة والمخبوءة وعلاقتها بخطاب الحب عند العرب. لقد ذيّلت الطحاوي دراستها بثبت ببلوغرافي أسمته (بيبلوغرافيا العَلَم) أوردت فيه أسماء أهم الباحثين الشعبيين المشتغلين في مجال تدوين هذا النوع السردي الشعبي الحب في التراث النسائي البدوي (شعر غناوة العَلَم) في صحراء مصر الغربية وإقليم برقة الليبي. وأشارت كذلك إلى التدوين المبكر لأشعار (غناوة العَلَم) الذي أنجزه عدد من الرحَّالة والمستشرقين الغربيين الذين نظروا إليه بوصفه أحد أهم الفنون الشعبيّة الشفاهية في صحراء مصر الغربية وفي إقليم برقة الليبي، ومن هذه الدراسات دراسات هارتمن (1899)، وفولز (1908_1913)، وسمارت (1966_1967). كما بيّنت الطحاوي جهود بعض الدارسين العرب، بخاصة من المصريين والليبيين في جمع ودراسة ونشر (شعر الغناوة). لقد جمعت الطحاوي ميدانيًا مختارات من (أشعار الغناوة) العائدة إلى قبيلتها (قبيلة الهنادي) في البحيرة والشَّرقية والفيُّوم، وقد اقتصرت على الأشعار القديمة المتواترة في كونها تراثًا شفهيًا غير المنسوب لشاعر. ويشتمل كتاب (بعيدة برقة على المِرسال) لميرال الطحاوي على مجموعة كبيرة من الفصول التي تتخذ عناوين روائية مثل (سيرة العزلة)، «و(ناقة)، و(خيمة)، و (جغرافيا الوهم)، و(في المأثور الشفهي للعربان)، و(بوح النساء في البادية) وغيرها. وتمثل الفصول الأولى (سيرة العزلة، وناقة، وقافلة، وخيمة، وجغرافيا الوهم، والمترجم) سردًا ذاتيًا داخلاً في إطار السيرة الذاتية المندرجة في تاريخ المكان (الصحراء المصرية الغربية). ويمثل القسم الثاني من الكتاب المداخل التاريخية الخاصة بأشعار الغناوة النسائية البدوية مثل التطرق لمفهوم (العربان) والمغالطات التاريخية الثقافية المتعلقة به، وعرض أبرز الدراسات الاستشراقية وأدب الرحَّالة عن مرويات البدو الشفاهية. ويمثل القسم الثالث والأخير الجمع الميداني الذي جمعت فيه الباحثة أشعار الغناوة النسائية من نساء قبيلتها (قبيلة الهنادي)؛ وهي مختارات من نصوص الحب والفقد والرِّثاء في الذاكرة النسوية البدوية، وهي المشاعر المحظورة والمسكوت عنها في تاريخ الأدب الشفاهي النسوي البدوي، ولعلَّ هذا ما يفسر كونها مجهولة القائلة أو الشاعرة المنشئة، وتُنشد بالتواتر الشفاهي جيلاً بعد جيل. وعلى الرغم من اندراج هذه الدراسة في مشروع الباحثة الخاص بتوثيق التاريخ الثقافي والشفاهي للعربان أو القبائل البدوية في الصحراء المصرية الغربية إلا أنَّ الباحثة لم تكن معنية بالأطر المنهجية النقدية الناظمة لموضوع بحثها بقدر عنايتها بالتتبع التاريخي والتوثيق والجمع الشفاهي لمرويات بدو تلك المنطقة. كما لم تربط دراستها سوى ببعض المقاربات البحثية التخصصية الدقيقة في مجال البحث (أشعار الغناوة) البدوية. إذًا غاب الإطار الفكري والنقدي الناظم الأكبر الناظم الذي يحيل مرويات (الغناوة) الشعبية البدوية النسائية إلى خطاب العشق عند المرأة العربية في الذاكرة الثقافية العربية منذ أقدم العصور بما ذلك الأدب الشعبي العربي. كما لم تستثمر الباحثة آليات تحليل الخطاب الثقافي والنظريات النقدية النسوية وتطبيقاتها على شعر المرأة الشعبي بما في ذلك أشعار الحب عند نساء البدو (أشعار الغناوة). كتاب (بعيدة برقة على المرسال) كتاب جدير بالقراءة للتعرف إلى بعض الخرائط الثقافية للفنون النسوية العربية الشفاهية. { أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :