السوري محمود شيخاني يستحضر تركيبات فلسفية تمزج بين القديم والجديد

  • 7/30/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يسرد الفنان التشكيلي السوري محمود شيخاني بألوانه وريشته مواضيع مختلفة، شعاره في ذلك أن الإبداع الحقيقي لا يخضع لحدود الزمان والمكان وإنما يخضع لفلسفة الفنان وقدرته على إخضاع اللون والفكرة ليقدم للمتلقي سرديات بصرية غنية وناطقة بحركات مبدعة. كنت قد استمعت إلى محمود شيخاني (حمص 1953) وهو يؤكد مقولة متداولة كثيراً في الوسط الفني تفيد بعدم الرغبة في الاقتراب من الموضوعات الكبيرة التي قد يُساء إليها، كما أنها لن ترفع من شأن العمل الفني، فالإساءة ستتوزع على الطرفين، أي على الموضوع واللوحة. ويتابع الحديث إلى أن يضع ريشته مع أصابعه كلها على الجرح حيث بؤرة النزف والخلق، فيقول “معالجة الموضوع، أي موضوع كان، هي الأساس في الموقف من قضايا الحياة، كبيرها وصغيرها، وليس الموضوع بحد ذاته، فالماهيات موجودة على أرض الواقع أمام أعين الجميع، لكن كيفية رؤيتها والتعبير عنها على أرض اللوحة هما الأهم”. تجربة ثرية أتفق معه تماماً؛ فالفنان هو الأسلوب لا الموضوع، طريقتك في التعبير هي أنت وليس ما تتحدث عنه. وشيخاني -ونحن معه- يمسك بآذان كثيرة ويفركها إن كانت تجهل ذلك، وإن سقط أكثرهم في أول الطريق، أو في منتصفه على أقصى تقدير، وإن كانت سلسلة طويلة من المقالات تطبل وتزمر لهم على صفحات الجرائد، وعلى القنوات التلفزيونية، فإعادة الاعتبار للعمل المبدع يفرضه العمل ذاته. هذا ما يلخصه شيخاني بفهمه، ويزرع في دواخلنا رغبة لا تقاوم في الاقتراب من محرابه وما يضج به من أعمال لا تكتمل إلا بقراءتها، القراءة التي ستكون أشبه بالجدار الرابع في المسرح، الجدار الأكثر فاعلية، الأكثر نطقاً بالحركات المبدعة وتفاصيلها، بالأحاسيس التي لا يمكن أن تُتَرجم، فكل الإشكاليات متعلقة بها، وكل الاكتشافات تحتاجها كبوصلة طريق في الاتجاهات كلها وسط موجة حالات الانشطار التي تتعاظم في أيامنا هذه، والتي تتداخل إلى حد عدم القدرة على توثيقها أو قراءتها وفرزها، فالحابل ذهب بالنابل. وسط هذه الحالة يأتي شيخاني مصراً على أن الإبداع الحقيقي لا زمان له ولا مكان، وحده يتقاطع مع ذاته راسماً إياها بتوافق دقيق مع حكايته التي يسردها بألوانها وبانتقالاتها التي تذكرنا بحكاية فنان حقيقي لا إيهام فيها ولا تطبيل، بحكاية تنتظر من يسمع سردها ويعيدها بلغته هو، حتى تخرج بسرودها الغنية والمتحركة، بل والجديدة في إشاراتها الدقيقة وفي علاقاتها الدقيقة والمهمة بالمحسوس منها وبالموحى إليه أيضاً. والمشهد المصور عند الفنان ليس لقطات هامشية، ولا أشكال لونية تتجمع بفعلها المرئي على مساحاته، ولا هو انتقالات تقنية بين مقارباته، بل هو رؤاه وبعض أحلامه التي قد تنشطر في ملامساتها لخيالات القارئ / المتلقي الذي يتمكن العمل فيه بتأثير كبير قد يعتبر الأهم، فهو الذي يقف خلف العمل الفني وأسباب إنتاجه أو هو أحد أهم الأسباب، ولولا هذا التأثر لما كانت للعمل المنجز تلك الأهمية كحامل لقيمة معرفية به يقف خارج الاختزال لمدلولاته المباينة منها والمغايرة. أعمال الفنان تبدو كأنها قادمة من محرابه بطقوسه وزخارفه التي تشكل عالمه الخاص، عالما من ألوان بإيقاعات مختلفة ولما اقترب شيخاني من عوالم لها أفقها المغاير أتت أهمية موجزات تفاعلاته، وأهمية التركيز على توالد غير هجين، اجتزأ من أشياء بسيطة جداً، ولها أهميتها في تأسيس جماليات منجز شيخاني الإبداعي القائم على النهوض به وبإشكالياته من الداخل عبر التركيز على عوالمه الجوانية بمميزاتها السردية التي تخوله بإشغال مساحة من زمنها ومن تقطيعاتها المكانية. الفنان محمود شيخاني وفي الكثير من إحالاته التي تؤكد مشروعية تحركها في المخيلة يستحضر تركيبات جديدة متوالدة من تجربته الطويلة التي تمتد لعقود، فهو من خريجي كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977، ويشارك في المعارض العامة والتجمعات الفنية منذ عام 1972. ويستحضر الفنان تركيبات ذات طابع فلسفي تقترب من الموروث حيناً ومن الوافد حينا آخر، فيتشكل خطابه من تقنيات وأساليب هي في غاية الخلط بين القديم والجديد، بين الموروث والوافد، وهذا ما يجعل مسألة الشكل عنده مهمة جدا، وهي تشف عن صوته الضمني، الصوت الذي سيجمع بين السعي إلى التمايز في بناء عالمه الخاص، وبين كيفية بناء ذلك العالم، لا بما يدعمها بمفاهيم قيمية تدفعه إلى المزيد من البحث فحسب بل بتماسك منطقها والمنحى الذي ينحوه. كل هذا يجعل شيخاني يترك أسئلته واحتمالاتها مفتوحة ومطروحة للمزيد من التأويلات والقراءات التي لا حدود لها. الإشارات والتفاصيل لغة تنتقل من الواقع إلى الفن الإشارات والتفاصيل لغة تنتقل من الواقع إلى الفن ويمتلك شيخاني لغة إشارية بتفاصيل ملامحها وبما تحيط نفسها به، يملأ صفحاتها بمنجم ثر من سرد جميل، حيث تفيض برهافتها الفنية والإنسانية وتتصل بزمن الوصف والسرد معاً وإن بتباين، ولو تجاوزنا جدلاً القطاف الذي سنجنيه ونحن نوقف لحظة السرد ولو برهة وافتراضا، سنجد أن الكثير من القيود الزمنية ستتحرر وإن تحررا نسبياً، استضاءة لعمق فهمنا لها مع التصعيد في بهجتها وبهجة الحياة فيها، وكأنها توليفة لأنماط سردية مختلفة، بنكهة وخاصية “شيخانية” فيها الكشف متاح لجذور رؤيته التوليفة تلك. هذه تفاصيل مستعادة بتداعياته بوصفها رصدا وكشفا لتجربته التي تتخللها طبائع مونولوجاتية بقيم تعبيرية وجمالية حيوية مؤثرة تمنحها تجربته بزوغاً من طراز خاص ومكثف، فاكاً الحصار المضروب على تلويناته بلغتها وتعبيراتها وصفائها، وبما يعمق دلالاتها الكثيرة، ومستحلباً ذاكرته بنسغ الحياة الموغلة فيها، وسالكاً الطرق التي تقوده إلى ملامسة الأبعاد التي ستدفع بمتلقيه إلى أقاصي تجربته الفنية ضمن مناخ تبرز فيه مقاطع موسيقية كلاسيكية محرضة له أولاً ولنا كمتلقين ثانياً. وتبدو أعمال الفنان كأنها قادمة من محرابه بطقوسه وزخارفه التي تشكل عالمه الخاص، عالما من ألوان بإيقاعات مختلفة، العازف فيه لون والمعزوفة لون والرقصة لون، والراقص لون، وكلها حركات لونية تتحول إلى رموز جمالية تبعاً لمتغيرات زمنية، تنتج عنها الآلاف من المكونات اللونية ولكل منها دوره في تخصيب مشهده البصري.

مشاركة :