إن أصحاب الفكر البسيط أو أولئك الذين أعمت الأيديولوجيا بصيرتهم هم فقط الذين يعتقدون أن الغزو الروسي لأوكرانيا ستكون نهايته جيدة. ان نهاية هذا النزاع لن تكون كذلك، وكلما طال أمد الحرب كلما تفاقم الوضع وازداد سوءا. هل كانت سلطات موسكو تعتقد فعلاً أن الغرب سوف يرضخ ويقبل بضم المزيد من الأراضي الأوكرانية مما يمنح القادة الروس نصراً سهلاً؟ هل كانت سلطات موسكو تعتقد حقا أن الأوكرانيين سوف يطيحون بقيادتهم، ويستبدلونها بحكومة أكثر موالاة لروسيا في كييف؟ هل كان الغرب يعتقد - بعد أن بدا وكأنه يرفض التحذيرات المبكرة للرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن نوايا موسكو - أن غضبه المتأخر وإظهار العزم من شأنه أن يحشد المجتمع الدولي لإجبار الكرملين على الاستسلام؟ لقد استثمرت سلطات موسكو في الكثير من هيبتها ومواردها وهو ما سيمنعها من التراجع والانسحاب. أما بالنسبة للأوكرانيين فإن كبرياءهم القومي قد بات على المحك، ناهيك عن خوفهم المبرر من النوايا الروسية. لذلك فهم لن يستسلموا فقط ويقبلوا الهزيمة. لقد دخلنا الآن الشهر الخامس من هذه الحرب، وعلى الرغم من التقارير المتكررة التي تفيد بأن الجيش الروسي يقترب من الإرهاق أو أن المقاومة الأوكرانية تزداد ضعفا وإنهاكا فإنه لم تلح في الأفق أي نهاية لقتل الأوكرانيين الأبرياء واستمرار الدمار الواسع في البلاد. في الحقيقة لن يكون أي طرف قادرا على الخروج منتصرا من هذه الحرب. فالروس سيجدون أنفسهم متورطين في صراع طويل سيكلفهم غالياً، فيما سيدفع الأوكرانيون الثمن الأكبر في الأرواح والثروات والمنازل والبنية التحتية والأمن. هناك تكاليف إضافية لهذه الحرب، بعض هذه التكاليف لن يتضح حجمه إلا في السنوات القادمة. يتعلق الأمر أولاً وقبل كل شيء بمصير ملايين اللاجئين الأوكرانيين الذين أجبروا على الفرار من بلادهم أو الذين نزحوا داخلياً بسبب القتال. وكما هو الحال في كل حرب بهذه الأبعاد، فإن الساذج فقط هو الذي يفترض بأنه عندما تنتهي الأعمال العدائية سيعود اللاجئون إلى ديارهم بكل بساطة. في المقام الأول، ليس لدينا أي فكرة متى أو كيف أو ما إذا كانت هذه الحرب ستنتهي. ومع ذلك، ما يجب أن يكون مؤكدًا هو أنه كلما طال أمد هذا النزاع العسكري، وكلما زاد الضرر، كلما زاد عدد اللاجئين الذين سيكونون إما غير قادرين أو إنهم سيختارون عدم العودة. في هذه الحالة، يجب أن نتساءل عما إذا كانت البلدان التي كانت ترحب في البداية باللاجئين ستظل ترحب بهم؟ يجب ألا ننسى أيضا التحولات الجيوسياسية غير المتوقعة التي بدأت تتشكل ببطء رداً على هذه الحرب. ففي أعقاب التدخل العسكري الروسي مباشرة تحدث جو بايدن، الذي أخذ صفحة خطابية من أمثال ونستون تشرشل، عن تكاتف العالم لمعارضة موسكو. تم إرسال الأسلحة والمساعدات إلى أوكرانيا وفرضت دول حلف الناتو عقوبات متزايدة ومتصاعدة على روسيا. قيل لنا في الخطب أن هذه الإجراءات الاقتصادية المشددة ستعزل روسيا وتدمر اقتصادها وتساعد في إنهاء هذه الحرب. كانت بعض هذه الإجراءات ضرورية والبعض الآخر كان له ما يبرره. ولكن مثلما سيكون للغزو العسكري عواقب وخيمة، مقصودة كانت أو غير مقصودة، فإن التدابير الاقتصادية بعيدة المدى والجهود المبذولة لفرض العزلة ستكون كذلك أيضا. من ناحية أخرى، كان لخسارة النفط والغاز الروسي والقمح الأوكراني، المحاصرين حتى التوصل إلى اتفاق بقيادة الأمم المتحدة الأسبوع الماضي، تأثير مدمر على اقتصادات وشعوب الشرق والغرب. رغم أن روسيا كانت غير قادرة على الانتقال الفوري، إلا أنها تمكنت، ببعض الصعوبة، من تعويض بعض خسائرها عن طريق بيع مواردها الحيوية في الأسواق الآسيوية. وبسبب القيود المفروضة على قدرة روسيا على التجارة بالدولار، فقد طالبت بالدفع بالروبل، مما أعطى عملتها دفعة مطلوبة. وفي الوقت نفسه، فإن ارتفاع تكاليف الوقود والدقيق يزعزع استقرار البلدان في شتى أنحاء العالم، الغنية منها والفقيرة. كما أن التدافع لإيجاد مصادر جديدة للنفط والغاز يؤدي إلى تجميد أهداف مناخية بالغة الأهمية بشكل خطير في المستقبل المنظور. وبسبب استمرار انعدام الثقة في اتساق القيادة الأمريكية (نظرًا للتحولات المذهلة في سياسات الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين) ترددت العديد من الدول أو رفضت تمامًا الانضمام إلى جبهة موحدة معارضة لروسيا. ومع استمرار الولايات المتحدة ودبلوماسيين غربيين آخرين في ممارسة الضغط على دول أمريكا اللاتينية وآسيا للانضمام إلى حملة الغرب لعزل روسيا قوبلت جهودهم بالرفض بأدب ولباقة. لقد ذكّرت هذه الدول محاوريها الغربيين بأنه مثلما وضعت العديد من الدول الغربية مصالحها الوطنية أولاً، على الرغم من أنها لا تدعم الإجراءات الروسية في أوكرانيا، يجب عليها الآن وضع مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية أولاً. هذا ما حدا بأحد المحللين إلى وصف التحالف الناشئ بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو بسخرية بأنه «الغرب ضد البقية». وكلما طالت مدة هذا الصراع، زاد تعقيد بعض هذه الحقائق الاقتصادية والسياسية الناشئة، وزاد الخطر المتمثل في أن يصبح العالم أكثر انقسامًا في حرب باردة جديدة. سوف تتوتر العلاقات، وستعاني الاقتصادات، وتتفاقم العداوات، وستنشأ صراعات جديدة. تم إنشاء منظمة الأمم المتحدة، وتم كتابة القانون والاتصال الدولي لتسوية مثل هذه الحالات. فلو كانت هذه الآليات تعمل لكانت الأطراف المتضررة قد طالبت بالمفاوضات والتحكيم. وبما أن جميع القوى الكبرى قد تسببت في تدهور مكانة منظمة الأمم المتحدة وتجاهلت قواعد القانون والحرب فإننا نفتقر اليوم إلى الآليات اللازمة والكفيلة بحل النزاعات وصون الحقوق. لم يبق لنا اليوم سوى نفس الخيارات التي واجهناها قبل خمسة أشهر، إما صب المزيد من الزيت على النار أو تعبئة الضغط الدولي للتوصل إلى حل تفاوضي. لن يكون إيجاد طريق للمضي قدمًا سهلاً أو حتى مستساغًا. من المرجح أن تكون التضحيات مطلوبة ولن يحصل أي من الجانبين على ما يريد. ولكن إما أن تتحقق هذه التسوية أو أن تتواصل دوامة الهبوط المستمر. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :