أجندة الثاني من آب هذا العام، مثقلة بالمواعيد الحسّاسة والمفصلية. عيد الجيش كان العنوان الأول الذي تميّز بتخريج دفعة من خريجي الكلية الحربية مناصفة بين الإناث والذكور الذين حملوا سيوفهم فيما جيوبهم فارغة وعيونهم قلقة على مستقبلهم الشخصي فضلاً عن مستقبل الوطن. فالضابط في الجيش اللبناني ولأعوام خلت، كان أحد عناوين النفوذ والوجاهة الاجتماعية. واللبنانيون لم ينسوا اللافتات التي سبق ورفعها بعض كبار الضباط عند ترقيتهم لرتبة أو منصب أعلى مرصّعة بعبارات إستفزازية مثل “بحجم وطن” أو “أكبر من وطن”. التطوع في الجيش في عهد العماد جوزف عون تعبير فعلي عن التضحية والحسّ بالمسؤولية الوطنية، لأن الامتيازات المضخّمة للضباط صيّرتهم فوق مستوى الناس والإحساس بالفقر والجوع الذي يعانيه مجتمعهم. ربّما من فضائل الانهيار الاقتصادي والمالي أنه حقّق نوعاً من المساواة القسرية في الآلام بين الضباط والجنود والمواطنين على السواء. الإنجاز الثاني الذي حققه الثاني من آب، أنه شكّل الفرصة البروتوكولوية القسرية على الرؤساء الثلاثة كي يلتئم شملهم في عيد الجيش، في مشهد عكس نوعاً من الالتفاف حول الجيش الذي بات يتسوّل في زمن الانهيارات الصعبة وجبة طعامه من مساعدات خارجية. وثمّة من يرى أن مشاركة الرؤساء الثلاثة في عيد الجيش كسرت الجليد بينهم، تمهيداً للقائهم الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين حتى لا يتمكن من ترسيم النفور بينهم كمقياس يبني عليه مناوراته الغامضة في محاولته ردم الفجوة التفاوضية بين لبنان و”إسرائيل”. صورة الاجتماع الذي شهده قصر بعبدا بين الترويكا الرئاسية والوسيط الأميركي لشؤون الطاقة، تذكر باجتماعات سالفة بين ترويكا رئاسية سابقة مع اللواء غازي كنعان وخلفه رستم غزالة، اللذين شكّلا ضابط الايقاع ليس بين أعضاء الترويكا الرئاسية فحسب، وإنما بين رموز كل المكونات الطائفية والسياسية في لبنان. الإيجابية، والتقدم في الحلول، عبارات رشحت عن اجتماع الترويكا الرئاسية مع هوكشتاين، وبدا المشهد وكأنّ هناك من يرغب بإطلاق المفرقعات النارية ابتهاجاً. وتردّد أنّ هوكشتاين أبلغ محاوريه اللبنانيين جواب “إسرائيل” على طلب لبنان وفيه “نوافق على التنازل عن مساحة 860 كلم2 للبنان.. ونتنازل عن حصتنا من مساحة حقل قانا، وعلى الجانب اللبناني أن يقابلنا بخطوة مماثلة بالتنازل عن مساحة محدّدة شمال الخط 23 أي جزء من البلوك رقم 8”. المسؤولون اللبنانيون ردّوا على المقترح الإسرائيلي بعدة لاءات، أبرزها، لا تنازل عن الخط 23 وكامل حقل قانا. وإمّا قانا والبلوك رقم 8 كاملاً أو لا ترسيم حدودي. لا للإستثمار المشترك في الحقول المتنازع عليها، فلبنان يرفض التطبيع تحت عنوان تقاسم عائدات الإنتاج. “تضييق الفجوات” التفاوضية بين لبنان و”إسرائيل”، عبارة عكست الإيجابية التي تحدث عنها الجميع. كما عكست نوعاً من الاستعجال لدى واشنطن وتل أبيب لطيّ صفحة الخلاف الترسيمي مع لبنان. وفي هذا السياق وجد حزب الله الفرصة سانحة له كي يشهر مُسيّراته وقمصانه السود ومنصّات صواريخه تزامناً مع زيارة هوكشتاين، بشكل وجد فيه الطرف الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة وأوروبا أنفسهم تحت وطأة الضغط والابتزاز المتشابه هذه المرّة مع الابتزاز الروسي لهم بملفي الغاز والغذاء. لكنّ حزب الله الذي يقول زعيمه حسن نصرالله، إنه لا يتدخل في المفاوضات لا من قريب ولا من بعيد، ويقبل بما تقبل به الدولة، وأن رسائله المُسيّرة والمتلفزة هي بهدف منح المفاوض اللبناني جرعة دعم تجعله يفاوض من موقع القوة، تطرح سؤالاً مفاده لماذا لم يبادر حزب الله عبر كتلته النيابية الى دعم مشروع قانون التعديلات على المرسوم 6433 التي تعتبر أن حدود لبنان البحرية تبدأ عند النقطة 29 كما حدّدها الوفد العسكري اللبناني الذي غُيّب عن اجتماعات هوكشتاين، وهي التعديلات التي إذا ما أقرّت فإنها تصحّح الحدود، كما وتحقّق عوائد غازية ومساحات بحرية أكبر للبنان. مباحثات هوكشتاين في لبنان (والذي قصد “اسرائيل” برّاً عبر معبر الناقورة) تركزت حول حقول وبلوكات نفطية، ما يعني نوعاً من اقتسام للثروة الغازية بعيداً عن الترسيم الحدودي البحري، وهذا بالضبط ما يريده حزب الله المتهم من قبل خصومه بأنه يرغب في استنساخ “مزارع شبعا بحرية”. ولهذا فالحزب مستنفر عسكرياً لممارسة لعبة التهديد بالذهاب الى “ما بعد ما بعد كاريش”، رغم أن كاريش بات خارج بنود التفاوض بعدما سلّم الجانب اللبناني بأنه من حصّة “اسرائيل”. وفيما تؤخذ تهديدات نصرالله وإحداثياته على محمل الجدّ في “إسرائيل”، فقد عمل هوكشتاين على تسخيفها بقوله “إن الطريقة الوحيدة للتوصل إلى حل لهذا النزاع طويل الأمد سيكون من خلال طاولة المفاوضات والدبلوماسية”، ويقول خصوم حزب الله، بأن الهدف من وراء تهديداته الكاريشية هو تمنين اللبنانيين بالقول “لولا سلاحنا لما تحصّل لبنان على حقوقه من إسرائيل”، تماماً كما سبق ومنّنهم بأنه “لولا سلاحنا ومقاتلينا لوصل داعش الى بيوتكم”. لكن هل فعلاً أن هدف نصرالله في هذه اللعبة الدولية الإقليمية المتشابكة التعقيد هو تمنين اللبنانيين، أم أنّ ما يفعله نيابة عن إيران هو جزء من معركة النفط والغاز الدولية المنطلقة من حرب روسيا في أوكرانيا وانعكاساتها على أسواق وامدادات الطاقة في العالم؟ وهل فعلاً أن مفاوضات الوسيط الأميركي بين لبنان و”إسرائيل” هي ما ستفضي إلى الحل المنشود، أم أنّ غرفة عمليات مشتركة تضمّ الولايات المتحدة و”إسرائيل” وروسيا وإيران، شبيهة بغرفة اسطنبول الخاصة بتنظيم سفن الغذاء من الموانىء الأوكرانية هي التي ستجيز إبرام الاتفاق النهائي حول الحقول البحرية وتحاصص مخزوناتها الغازية والنفطية؟ هذا ما ستجيب عليه الأسابيع المقبلة.
مشاركة :