دخل العراق في صراع جديد بين رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وخصومه المتحالفين مع إيران والذي يعده محللون أحدث اختبار لما تبقى من استقرار داخلي ولقدرة طهران على درء نزاع قد يضر بمصالحها في بغداد والمنطقة. ومع اعتصام أنصار الصدر في البرلمان واحتجاج معارضيه في الشوارع، أدى الخلاف حول تشكيل حكومة جديدة إلى فرض المزيد من الضغوط على نظام سياسي تعصف به الأزمات منذ أن أطاحت قوات تقودها الولايات المتحدة بنظام صدام حسين قبل عقدين. ودعت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) الأربعاء الطبقة السياسية إلى إيجاد “حلول عاجلة للأزمة” عبر الحوار بين الأطراف السياسية. وفي محاولة للخروج من الأزمة، دعا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي يتولى حكومة تصريف الأعمال، الأطراف السياسية إلى الدخول في “حوار وطني”. وأعلن هادي العامري، زعيم أحد الفصائل البارزة في تحالف الفتح الموالي لإيران، والمنضوي في الإطار التنسيقي، تأييده لمبادرة الكاظمي. توبي دودج: مقتدى الصدر يريد وضعا سياسيا يتيح له هيمنة أكبر وتُفاقم هذه الأزمة من القلاقل في حزام يضم دولا عربية هشة الأوضاع بين إيران ودول البحر المتوسط، وهي العراق وسوريا ولبنان، وكلها تقع في دائرة نفوذ إيران وعانت من ويلات صراعات أو أزمات كبرى على مدى العقد الماضي، من بينها معركة دامية مع تنظيم الدولة الإسلامية. وبالنسبة إلى العراق الذي مالت فيه كفة ميزان القوى لصالح إيران بعد الغزو الأميركي عام 2003، زاد الصراع من الانقسامات في بلد له تاريخ حافل أيضا من التنافس بين الجماعات العربية السنية والجماعات الكردية التي تسيطر على الشمال. وحتى الآن، لا يبدو أن أيّا من الجانبين مستعد للتراجع في المواجهة المستمرة منذ عشرة أشهر والتي بدأت عندما خرج الصدر منتصرا في انتخابات أكتوبر وسعى بعدها لتشكيل حكومة وفقا لشروطه، لكنه لم ينجح. وفي الوقت الحالي يبدو أن الطرفين المدججين بالسلاح يعملان على تجنب العنف انطلاقا من إدراكهما تأثير ذلك على البلاد وعلى الأغلبية الشيعية التي صعدت إلى السلطة في إطار نظام سياسي أسسته الولايات المتحدة بعد الإطاحة بصدام السني. لكن في ظل الأحداث الدرامية التي تشهدها بغداد منذ أيام مع اجتياح أنصار الصدر المنطقة الخضراء شديدة التحصين والتي تضم العديد من مقرات الدولة والسفارات مطلع هذا الأسبوع، يشعر العديد من العراقيين بالقلق من احتمال وقوع أعمال عنف. وقال دبلوماسي غربي إن أحد كبار القادة العسكريين الإيرانيين، وهو البريغادير جنرال إسماعيل قاآني، زار بغداد في الأيام الأخيرة في محاولة للحيلولة دون تصعيد التوتر، في مؤشر على شعور إيران بالقلق. وأكد الزيارة مسؤول عراقي في الإطار التنسيقي، وهو تكتل للفصائل المتحالفة مع إيران، لكنه قال إنها لم تُكلل بالنجاح فيما يبدو، دون الخوض في التفاصيل. وواجه قاآني، الذي يرأس ذراع الحرس الثوري المسؤول عن الفصائل المتحالفة مع إيران في الخارج، صعوبات في ممارسة نفس النفوذ الذي كان يتمتع به سلفه قاسم سليماني والذي قُتل في هجوم أميركي في عام 2020. وقال ريناد منصور من مؤسسة تشاتام هاوس للأبحاث إن “النفوذ الإيراني شهد تقلبات عديدة وهو آخذ في التراجع إلى حد ما”. وأضاف “الانتخابات وعملية تشكيل الحكومة كشفت عن حجم الانقسام بين الأحزاب السياسية مما يجعل الأمر معقدا جدا بالنسبة إلى إيران”. العديد من العراقيين يشعرون بالقلق من احتمال وقوع أعمال عنف في ظل الأحداث الدرامية التي تشهدها بغداد منذ أيام الأزمة أيضا في لحظة صعبة بالنسبة إلى إيران في دولة أخرى حيث خسرت جماعة حزب الله المسلحة وحلفاؤها الأغلبية البرلمانية في لبنان في مايو رغم أنهم مازالوا يتمتعون بنفوذ كبير. ومقتدى الصدر سليل عائلة رجال دين بارزين، حارب القوات الأميركية بعد الغزو، وقد عارض النفوذ الخارجي في بلاده طويلا. وزادت المخاطر في يونيو عندما وجّه النواب من كتلته النيابية إلى الانسحاب من البرلمان متنازلين بذلك عن العشرات من المقاعد لتيارات متحالفة مع إيران. والخطوات التي اتخذتها تلك التيارات لاحقا صوب تشكيل حكومة دون الصدر هي ما دفعت أنصاره إلى اقتحام البرلمان. ودعوة الصدر الأخيرة إلى إدخال تعديلات غير محددة على الدستور قد تشير إلى أنه يريد قلب النظام القائم بأكمله رأسا على عقب. لكنّ بعض المحللين يشككون في رغبته الحقيقية في تغيير نظام أتى ليخدمه جيدا، إذ يهيمن الصدر وأتباعه على أغلب مفاصل الدولة. وقال توبي دودج الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد “الصدر ليس ثوريا. هو يريد استمرار النظام لكن على أن يكون في وضع يتيح له هيمنة أكبر”. ووصف دودج الأزمة بأنها “شجار داخل نخبة شعبيتها آخذة في التضاؤل” في بلد تسبب فيه سوء الحكم والإدارة والفساد في انقطاعات متكررة في الكهرباء والمياه وتفشي الفقر والبطالة رغم أن بالبلاد ثروات نفطية ضخمة. دعوة الصدر الأخيرة إلى إدخال تعديلات غير محددة على الدستور قد تشير إلى أنه يريد قلب النظام القائم بأكمله رأسا على عقب وأججت ظروف مماثلة احتجاجات حاشدة في بغداد وجنوب العراق في 2019 قُتل فيها المئات من المحتجين على يد قوات الأمن. وقال دودج “ربما كانت هناك حسابات خاطئة وغلطات، لكن يبدو لي أنه يوجد في كل مرحلة من تلك العملية طرف أو آخر يتخذ خطوات لتجنب العنف”. وتحتفظ الولايات المتحدة بنحو ألفي جندي في العراق لمحاربة فلول الدولة الإسلامية، وهو عدد أقل بكثير من ذلك الذي تم نشره هناك في ذروة الاحتلال وهو 170 ألف جندي. وبحسب مسؤولين عراقيين، فإن المسؤولين الأميركيين الذين كانوا يشاركون في اتفاقات سرية متعلقة بتشكيل الحكومة في السابق، لم يتدخلوا إلى حد كبير في تلك الأمور في السنوات الأخيرة. وقال فالي نصر الخبير في شؤون الشرق الأوسط بجامعة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن، إن العراق لا يبدو أولوية كبيرة للولايات المتحدة. وأضاف “لم يتم التعامل مع العراق على أنه عامل يغير قواعد اللعبة بالنسبة إلى المنطقة، وقد ينتهي به الأمر عند هذه الحال إذا فقد قدر الاستقرار الضئيل الذي يتمتع به”. ومضى قائلا “من السابق لأوانه اعتبار ذلك خسارة لإيران، فقد ينتهي الأمر بخسارة للجميع، وبعد ذلك يصبح السؤال: من الذي سيعيد الأمور إلى نصابها بعد ذلك”. وأشار حمدي مالك من معهد واشنطن للأبحاث إلى بوادر من الجانبين تدل على ضبط النفس، لكنه قال إن الصراع يحمل مخاطرة. وتابع قائلا “أي حرب أهلية بين الجماعات الشيعية سيكون لها تأثير عميق ليس فقط على شعب العراق، ولكن على المنطقة الأوسع بل وعلى أجزاء أخرى من العالم، لأسباب ليس أقلها الانقطاع المحتمل في إمدادات النفط، إذ أن معظم ثروة العراق النفطية تقع في مناطق تغلب عليها الشيعة في البلاد”.
مشاركة :