لست بصدد مقارنة حاكم من حكام أي عصر من العصور، مهما بلغ حظه من النجاح أو التوفيق، بعصر الخلفاء الراشدين، ممن كان لأمثالهم وجود بعد رحيلهم، وقد اصطفاهم الله، خلفاً لسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، في تبليغ ما أنزله إليه من قرآن كريم هدى للعالمين... وإنما أسوق بعض الأمثلة لأدلل على أنه لا أحد معصوم من الخطأ. طالبت في مقال الأحد الماضي تحت هذا العنوان، وفي ذكرى هذه الثورة كتّاب الأعمدة الصحافية، الذين ناصبوها العداء، بأن يكونوا أكثر إنصافا لها، لأنه لا توجد ثورة بلا أخطاء، كما طلبت من الذين أيدوها التأييد المطلق، أن يتحلوا بالصدق والأمانة في الاعتراف بأخطاء تردت فيها الثورة، وأن أكبر خطأ وقعت فيه ثورة يوليو 1952، هو أنها لم تحقق أحد مبادئها وهو إقامة حياة ديموقراطية سليمة، فغاب الرأي الآخر، ومع غيابه وقعت الأخطاء، بالرغم مما حققته من إنجازات، بجلاء القوات البريطانية عن مصر بعد احتلال دام 72 عاماً، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي وتحقيق العدالة الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمعدومة الدخل. التاريخ لا يرحم التاريخ هو الحقيقة الواحدة التي لا تغفر لأحد خطأ، فكما وقعت النكبة الكبرى في حرب سنة 1967، بسبب خطأ ناصر في اختيار بعض قيادات الجيش، التي كانت سبباً في خسارتنا لهذه الحرب، فأصابت ثورة 23 يوليو في مقتل، إلى أن ردت إلينا كرامتنا بنصر أكتوبر العظيم، وقعت الفتنة الكبرى، في الثورة الأعظم، على مدى التاريخ، وهي الثورة الإسلامية، عندما عزل سيدنا عثمان، رضى الله عنه، سعد بن أبي وقاص، عن ولاية الكوفة، وهو بطل القادسية وقاصم دولة الأكاسرة وثالث من أسلم، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان سيدنا عمر، رضى الله عنه، قد ولاه على الكوفة، وهي من أهم الثغور ليتم بها الفتح الذي بدأه. وولَّى سيدنا عثمان، رضي الله عنه، الوليد بن عقبة عليها، وقد نزلت فيه آيات من القرآن الكريم، في قول المولى عز وجل «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». وكان الوليد قد كذب على النبي، صلى الله عليه وسلم، عندما أخبره أن بني المصطلق منعوه من الصدقة، فخرج إليهم النبي غازياً. فكان تعيين الوليد خطأ يؤخذ على عثمان في دراسة أسباب الفتنة الكبرى التي أودت بحياته، ومن بعده بحياة سيدنا علي رضى الله عنهما. ولم يشفع لسيدنا عثمان، رضى الله عنه، وهو المبشّر بالجنة لدى المسلمين، تعيينه فاسقاً على هذه الولاية أنه جهّز من ماله الخاص جيشاً بأكمله في غزوة تبوك، وأنه اشترى من ماله الخاص بئر رومة، ليمنع مالكها اليهودي من استغلال أهل المدينة، بما فرضه من ثمن باهظ لمائها، عندما سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «من يشتري بئر رومة ليجعلها للمسلمين، له بها مشرب في الجنة»، كما لم يشفع له لدى المسلمين حينئذ أنه في عهده أعيد فتح بلاد فارس مرة أخرى، وفتحت أرمينيا، وامتد سلطان الدولة الإسلامية إلى المغرب، وفتحت إفريقية، وأنشئت في عهده أول قوة بحرية إسلامية، انتصرت على أسطول الروم. ولست في كل ما تقدّم بصدد مقارنة حاكم من حكام أي عصر من العصور، مهما بلغ حظه من النجاح أو التوفيق، بعصر الخلفاء الراشدين، ممن كان لأمثالهم وجود بعد رحيلهم، وقد اصطفاهم الله، خلفاً لسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، في تبليغ ما أنزله إليه من قرآن كريم هدى للعالمين... وإنما كنت أسوق بعض الأمثلة لأدلل على أنه لا أحد معصوم من الخطأ. يقول المولى عز وجل «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا». آخر العمالقة ربما يكون جديراً بالذكر، في هذا السياق، الذي يتم فيه تقييم مرحلة من مراحل الحياة السياسية المصرية، أن أستعيد ما كتبه الكتّاب الغربيون عن هذه المرحلة في كتاب تحت عنوان «آخر العمالقة»، حيث وضع كاتبه الصحافي الكبير، سالز برغر، جمال عبدالناصر، في ذات الصف مع تشرشل وروزفلت وستالين وأيزنهاور وديغول وماوتسي تونغ ونهرو، وتيتو، على أساس من إدارته الكاملة لحرب السويس على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، وعلى المستوى العسكري والسياسي والنفسي بكفاءة تثير الإعجاب في ظروف شديدة التعقيد، وفي مواجهة توازن متشابك قوي وخطير. العدو الأول للاستعمار في الخليج وفي كتاب بعنوان «سلطان في عمان» يروي الكاتب الإنكليزي جيمس موريس في مرافقته السلطان سعيد بن تيمور عام 1955 أن كبير جنود الإمام غالب روى له أنه وقوة من جنوده اعتقلوا أحد الأعراب مع قافلة من الجِمال محمّلة بالبنادق والذخيرة، أرسله إلى الإمام في واحة البريمي التي كانت تحتلها القوات البريطانية، ومع الأعرابي رسالة من الرئيس الراحل جمال، يُعرب فيها عن تأييده للإمام في تحريره لبلاده. ويقرر موريس في شهادته للتاريخ أن جمال كان العدو الأول للاستعمار الغربي في الخليج العربي، وأنه كان المقاوم العنيد لأطماع الاستعمار في منطقة الشرق الأوسط، وأنه قلب ميزان القوة في المنطقة بعد صفقة الأسلحة التشيكية التي كسر بها احتكار الغرب للسلاح. تأميم قناة السيويس ويسجل المؤرخ الإيطالي، مسار ماركو، حق مصر في قناة السويس قبل التأميم بعشرات السنوات، حيث كتب يقول: إذا كانت الظروف قد قضت بحرمان إسماعيل من الانتفاع بعوائد القناة التي تحملت مصر من أجلها أعظم التضحيات، ثم فقدت كل حق فيها، فما من شك في أن مصر سوف تثأر لنفسها عاجلاً أو آجلاً، ولسوف يتسنى لها يوماً أن تحصل من القناة على حقها في التضحيات التي بذلتها في سبيل تنفيذ هذا المشروع، وذلك هو حكم التاريخ.
مشاركة :