تحل هذا الشهر الذكرى الخمسين عاما لقيام إسرائيل باغتيال غسان كنفاني بزرع قنبلة في سيارته مما أدى إلى مقتله هو وابنة أخته البالغة من العمر 17 عاما. على مر السنين فكرت كثيرًا في غسان كنفاني، وإسهاماته في الأدب العربي، والدور الذي لعبه في تشكيل أطروحة الدكتوراه التي أعددتها وتأثره في نظرتي إلى فلسطين. خلال صيف عام 1971 كنت في لبنان لإجراء بحث حول نشأة الهوية الوطنية الفلسطينية. هناك التقيت غسان كنفاني. كادت تلك المواجهة الأولى أن تنتهي قبل أن تبدأ. بينما كنت أنتظر أن ينتهي من محادثة هاتفية ساخنة، نظرت إلى الحائط خلفه فلمحت مجموعة من قصاصات الصحف والصور والملصقات. بعد أن أنهى مكالمته، نظر إليّ وأشار باستخفاف إلى أنني «أميركي آخر من أصل عربي جاء إلى لبنان ليجد نفسه في القضية الفلسطينية». أشار إلى صورة وراءه للتعبئة الجماهيرية ضد الحرب في فيتنام، وقال لي بغرور إنه إذا أردت أن أجد نفسي فإنه يجب علي أن أعود إلى المنزل وأنضم إلى هذا الجهد والنضال من أجل الحقوق المدنية. أذكر أنني لم أكتف يومها بالمغادرة، حيث أجبته باقتضاب أنني كنت ناشطًا في كل من الحركات المناهضة للحرب والحركة المدنية، وأنني كنت في لبنان ليس لأجد نفسي ولكن لإجراء بحث ضمن أطروحة الدكتوراه التي أعددتها. كنت في حاجة إلى المساعدة في الاتصال بالفلسطينيين في المخيمات، وكان يمكن لغسان كنفاني إما أن يساعدني أو يرفض ذلك. لعل الأمر مرتبط في طريقة عملي المباشرة. قدم لي غسان كنفاني وآخرون يد المساعدة واجروا الاتصالات لتمكيني من الوصول إلى المخيمات. قضيت بعض الوقت في مخيم عين الحلوة حيث التقيت العشرات من اللاجئين الفلسطينيين، وسجّلت قصصهم ورأيت صورًا للمنازل التي تركوها وراءهم، وتحدثت عما يعنيه كونك فلسطينيًا بالنسبة لهم. عندما عدت إلى بيروت، أجريت عدة لقاءات أخرى مع غسان كنفاني حيث تحدثنا عن أطروحة الدكتوراه التي كنت بصدد إعدادها. أخبرته عن فكرة «حركات التنشيط» التي طورها أحد مستشاري، أنتوني ف. والاس – وهي تتعلق بالكيفية التي تتعرض بها مجموعات الأشخاص الذين أصيبوا بصدمات نفسية بسبب الاضطراب الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي في كثير من الأحيان إلى تغيير في نمط تفكيرهم. وصف والاس، الذي درس الحركات الثورية الأمريكية الأصلية، هذا التحول بأنه «إعادة تركيب متاهة»، حيث تم استبدال الأنماط القديمة للفكر والهوية بإحساس جديد بالفهم الجماعي. بعض هذه الحركات تنظر إلى الوراء، إلى الماضي المثالي. أما الحركات الأخرى فهي تعتمد على التجارب السابقة وتخطط في الوقت نفسه لمستقبل تحولي تطلعي. بعد الاستماع قال غسان: «في المخيمات جربت النوع الأول». وقال إنه بسبب خسارتهم الفادحة، «قام اللاجئون بإضفاء الطابع الرومانسي على الماضي وهم يريدون إعادة خلقه». كان لهذا صدى مع ما وجدته، مخيمات منظمة حول قراهم وحياة قريتهم وقصص نعيم رعوي يشبه الحلم. بعد ذلك قال لي: «لفهم الفكر الثوري التطلعي، عليك أن تذهب إلى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. ستجد في شعرهم وسياساتهم المستقبل الفلسطيني. إن رؤيتهم هي التي ستقودنا». أهداني غسان كنفاني يومها كتباً شعرية لتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وآخرين، كما أجريت معه حوارا مطولا (نشرته لاحقاً) حول «دور الشعر في النضال الفلسطيني». عدت إلى المنزل، وبدأت في كتابة رسالتي الجامعية لنيل درجة الدكتوراه، كما واظبت على مراسلة غسان كنفاني بشكل منتظم. بعد مرور أشهر، صُدم العالم بهجوم إرهابي مروع قام به أفراد من الجيش الأحمر الياباني أسفر عن مقتل 29 سائحًا بريئًا في مطار اللد الإسرائيلي. عندما رأيت أن المجلة التي يشرف على تحريرها غسان كنفاني قد بشرت بالهجوم على أنه عمل ثوري بطولي، أصبت بالغثيان وكتبت له بغضب منددا بالمجزرة باعتبارها جريمة قتل لا معنى لها ومثيرة للاشمئزاز كما أدنت دعم المجلة لها. لا أعرف ما إذا كان قد رأى رسالتي من قبل، لأن الإسرائيليين اغتالوه بعد ذلك بوقت قصير. على الرغم من المعايير المزدوجة من قبل الغرب، إلا أن هذا الهجوم الإرهابي كان مروعاً. لا أستطيع أن أنسى غسان كنفاني والعلاقة القصيرة والمتضاربة التي ربطتني وكنت محظوظًا بها. كان التأثير الذي أحدثه هو وجيله من الفلسطينيين عميقاً. ما الذي كان يمكن أن يحدث لو استجاب العالم لدعوتهم لتحقيق العدالة لفلسطين - إذا لم تحدث الصدمات المستمرة التي شكلت الوجود الفلسطيني - إذا لم تطبق جميع الأطراف إحساسًا متضاربًا بالأخلاق على عنف المقاومة وعنف النكبة وما أعقبها من أهوال الاحتلال؟ لن نعرف أبدًا، لكنني كنت أتمنى لو كان غسان كنفاني لايزال حيا معنا حتى أجري معه هذا النقاش. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :