أمي ماتت، ومات معها كل شيء.. عبارة كتبها الطفل المصري محمد عبد الكريم حسن الذي يدرس في الصف الخامس الابتدائي، كتبها بكل براءة وعفوية في ورقة الإجابة عن سؤال في امتحان اللغة العربية للمرحلة الابتدائية، فقد كانت الإجابة كافية لوصف ما يخالجه من شعور. نعم ماتت أمي.. ولم أظنَّ يومًا من الأيام بأنني أنا الذي سوف أكتبها، فأعظم الفقد هو فقد الأم، وإذا فقد المرء أمه فقد أغُلق دونه باب للجنّة كان مفتوحًا له، وهذا أعظم ما يحزّ في القلب، ولكنّ الله يعوّضه بجريان أعمال البر بعد الممات، ويهوّن عليه تذكّر رحمة الله بأهل الإسلام وإكرامه لهم، وأنّ ما عنده خيرٌ لهم وأبقى. سبقها بالرحيل والدي الذي رحل معه الأمان، ثم رحلت والدتي ورحل معها الحنان، رحلت من جاد عليها الكريم المنّان بمكارم الأخلاق، من كان لها من الفضل والنبل والجود ما يشهد به البعيد قبل القريب. ولدت أمي «حصة بنت عثمان الفهد» رحمها الله في بلدة «حرمة» بمنطقة سدير عام 1364هـ، فقدت أمها وهي صغيرة ولا تعرفها، ونظرًا لانشغال والدها الشيخ «عثمان بن محمد الفهد» رحمه الله وسفره لطلب الرزق، فقد تربت وترعرعت في كنف عمّها الشيخ «راشد بن محمد الفهد» رحمه الله، الذي أحسن إليها حتى أتم زواجها. تزوجت بوالدي الشيخ «صالح بن محمد الصالح» رحمه الله، وعاشت معه عيشة كريمة في بيت العائلة وسط المزرعة ببلدة «عرقة»، وكانت رحمها الله أثناء ذلك تقوم بأعمال المنزل اليومية، ومشاركة والدي في المزرعة وجلب الماء يدويًا للمصلين بمسجد عرقان القريب من المزرعة، وسقيا منزل والدي ووالديه وبيوت بعض الأقارب حتى تم تركيب مكينة الماء المعروفة باسم: بلاك ستون. حرصت والدتي رحمها الله منذُ نعومة أظفارها على طاعة الله ومحافظتها على صلاتها وصيامها، وطاعة زوجها والإحسان إلى جدي وجدتي والعناية بهما، ومن جوانب هذا الاهتمام ذهابها يوم الجمعة بجدي محمد رحمه الله إلى جامع البلدة الوحيد الذي يبعد عن مزرعتنا قرابة أكثر من (نصف كيلو). حرصت والدتي رحمها الله على دعوة غير المسلمين من العاملات المنزليات إلى الإسلام، وقد أسلم بفضل الله على يدها العديد منهن، وكانت تسعى إلى تعليمهن مبادئ الإسلام وتذهب بهن إلى مكتب توعية الجاليات لحضور الدروس والدورات العلمية، جعلها الله ممن قال فيهم نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه؛ لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.. الحديث). كانت رحمها الله تعالى رمزًا للطهر واللطف والكرم ومحبةً للخير والإحسان والبذل والعطاء للكبير والصغير، ومما حباها الله به حفظها وتقديرها وإكرامها للنعمة، وكانت تحرص كل الحرص على تلبية الدعوة وحضور جميع المناسبات العائلية، والزيارات الخاصة، واللقاء بأبنائها وبناتها وأحفادها بشكل مستمر وكان بيتها عامرًا بمحبيها. أمتنّ الله سبحانه وتعالى على والدتي رحمها الله بالمعرفة للطب الشعبي، وقد كانت تحسن إلى أبناء الآخرين بمعالجتهم ورقيتهم بالرقية الشرعية، كانت تعالج بعض الأمراض التي يتعرض لها الأطفال، وتستخدم بعض الأعشاب التي نفع الله بها، ولا ترد من يتصل بها لإحضار طفله من ليل أو نهار، ومنهجها في ذلك قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ)، وكل ذلك كان احتسابًا لله تعالى ولا تأخذ عليه أي مقابل. كانت رحمها الله تحرص على تقديم ما ينفع الناس، وتحسن إليهم، وتسعى لتفريج كربهم، وكانت تجد السعادة في ذلك، ومنهجها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبةً منْ كُرب الدُّنْيا نفَّس اللَّه عنْه كُرْبةً منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، ومَنْ يسَّرَ عَلَى مُعْسرٍ يسَّرَ اللَّه عليْهِ في الدُّنْيَا والآخِرةِ، ومَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَترهُ اللَّه فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ...». وفي عشاء يوم الاثنين، السادس عشر من رمضان من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين من الهجرة، فاضت روحها لبارئها الرحيم، من دون أن تشتكي أو تتسخط من المرض وما يصاحبه من آلام، راضية بقضاء الله وقدره، محتسبة كل ما يصيبها عند الله عز وجل، وأُقيمت الصلاة عليها بعد العصر من يوم الثلاثاء في مسجد الملك خالد بأم الحمام بالرياض، ودُفنت في مقبرة عرقة، وكان الوداع الأخير في هذه الدنيا، وأسأل الله أن يجمعنا بها في مستقر رحمته، وأن يجعلها ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اغفر لوالدتي وارفع درجتها ووسع لها في قبرها واجعلها من أهل الفردوس الأعلى، اللهم آمين. ** **
مشاركة :