مع قدوم موجة التضخم العالمي، تقوم البنوك المركزية في دول العالم برفع معدل الفائدة بعد سنوات من انتهاجها لسياسات سعر الفائدة القريبة من الصفر. وفي هذا النطاق، يعتبر التحكم في سعر الفائدة أحد السياسات المالية التي تقوم بها البنوك المركزية لتعزيز الاقتصاد بما في ذلك: رفع مستوى النشاط الاقتصادي والعمالة والاستثمار أو التحكم بمستوى التضخم في أسعار السلع والخدمات. ويعتبر مؤشر أسعار المستهلك أو مقياس الـ CPI أحد المقاييس الأساسية لقياس نسبة التضخم في دولة ما. ففي الولايات المتحدة الأمريكية قفز مؤشر سعر المستهلك إلى 9.1% في شهر يونيو، وكان ذلك أسرع وتيرة للتضخم منذ أربعة عقود، مما يعني أن المتسوقين دفعوا أسعارًا أعلى بشكل كبير لمجموعة متنوعة من السلع في يونيو خصوصا لمنتجات الطاقة التي قفزت أسعارها لأكثر من 50%، حيث أبقى التضخم سيطرته على الاقتصاد الأمريكي المتباطئ. ولم تكن دول مجلس التعاون الخليجي بمنأى عن التضخم في دول العالم، ولكن آثاره لم تكن حادة، إذ سجلت قطر والامارات أعلى نسبة تضخم حيث بلغت بنسبة 5.4%، تليها دولة الكويت بنسبة 4.52% تليها سلطنة عمان بمعدل 2.85% وأخيرا مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية بنسب منخفضة. قد ترتفع أسعار السلع والخدمات لأسباب عديدة منها: ارتفاع الطلب على سلع معينة لدى المستهلكين، مشاكل في سلسلة التوريد، زيادة الضرائب والأسعار الجمركية، زيادة تكاليف الإنتاج، الندرة ونقص المواد، الحرب، والأهم من ذلك زيادة المعروض النقدي (التضخم المالي) الذي يحدث من خلال التوسع الائتماني والانفاق الحكومي. يحدث التضخم المالي عندما ينمو المعروض النقدي لبلد ما بسرعة أكبر من الناتج الاقتصادي للبلد مما يسبب تضخم في أسعار السلع والخدمات. وهذا ما يعكس ما حصل في الولايات الأمريكية المتحدة عندما أقرت إدارة الرئيس جو بايدن خطط إنفاق بلغت حوالي 6 تريليون دولار لدعم الاقتصاد الأمريكي الذي تأثر بجائحة الكوفيد-19 مع قيام البنك الفيدرالي بخفض سعر الفائدة الى الصفر. وبالفعل، حدثت طفرة اقتصادية مؤقتة في الاقتصاد الأمريكي وارتفاع الإنتاج المحلي بسبب ارتفاع انفاق المستهلكين في السوق وزيادة الاستثمارات. ولم تكن هذه السياسة بمنأى عن الآثار الجانبية والتي أدت بطبيعة الحال الى تضخم في أسعار السلع والخدمات وارتفاع في مؤشر أسعار المستهلك وانخفاض الناتج المحلي لربعين متتاليين مما يعني أن الولايات المتحدة أصبحت في حالة ركود اقتصادي. يعتقد الكثيرون انه من الأفضل أن تقوم البنوك المركزية بالاستمرار في خفض سعر الفائدة على مدى السنوات وذلك لتحقيق أكبر منفعة اقتصادية ممكنة. ولكن آثار تلك السياسة كارثية على اقتصاد أي دولة في العالم، وذلك لأن الأسعار سترتفع بشكل مطرد مع عدم ارتفاع الأجور، وهذا يضر بشكل خاص المدخرين للمال بسبب انخفاض في قيمة مدخراتهم عند انفاقها. فعلى عكس ما يظن علماء الاقتصاد ك Paul Krugman، خفض سعر الفائدة لا يؤدي الى الازدهار الاقتصادي على المدى البعيد، بمجرد أن تصبح سياسة سعر الفائدة المنخفض غير فعالة، ستقوم الحكومة بالتدخل وزيادة الانفاق على المشاريع وغيرها بهدف تعزيز ثقة المستهلكين ورفع انفاقهم وذلك كما ذكرنا لأن البنك الفيدرالي لا يستطيع خفض الفائدة أقل من الصفر. وهذا ما حصل بالفعل عندما اقترحت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن مرة أخرى قانونا جديدا يسمى بـ Inflation Reduction Act Bill 2022 الذي يصل الانفاق الحكومي المتفق عليه الى 739 بليون دولار لدعم الاقتصاد الأمريكي وخفض معدل التضخم. مع ذلك، يبدو ان صناع القرار في الولايات المتحدة لم يتعلموا من التاريخ حول مسببات التضخم في الأسعار على الرغم من سياسات الانفاق الحكومي الذي وصل الى أكثر من 7 ترليونات دولار وسياسة سعر الفائدة الصفرية التي تبدوا انها لم تجدي نفعا حتى الان. وستذكر هنا الأزمة المالية التي ضربت العالم في 2007-2008 عندما تم خفض أسعار الفائدة على مدى عقد من الزمن مما سبب ارتفاعا في الأسعار خصوصا أسعار العقارات. يحدث هذا عندما تقوم البنوك المركزية بخفض نسبة الفائدة، ويقوم مطورو العقارات باقتراض الأموال بأسعار فائدة منخفضة من البنوك التجارية لهدف الاستثمار في مشاريع العقارات، فيرتفع الطلب على شراء العقارات مع ارتفاع الطلب عليها، وهكذا. تستمر هذه العملية حتى يصل فيها الديون الى مراحل خطيرة بسبب الاقتراض المتواصل، حتى تصل البنوك لمرحلة لا تستطيع فيها أن تقرض أحد، وتبدأ الكارثة عندما يطلب المطورون اقتراض المزيد من الأموال لعدم استطاعتهم اكمال بناء المشاريع فتنخفض الأسعار بسبب قلة الطلب ويتكبد الدائنون (البنوك) الخسائر بسبب عدم استطاعتهم استرجاع الأموال المقترضة، ولا يستطيع المدينون (المستثمرون) رد الأموال المقترضة للبنوك. فتبدأ البنوك بإعلان افلاسها، ويبدأ حصول الركود الاقتصادي وتقوم على أثرها الحكومات برفع مستوى الانفاق الى مستويات قياسية لتعزيز الاقتصاد مرة أخرى. ولمواجهة التضخم في أسعار السلع والخدمات، تقوم البنوك المركزية برفع نسبة الفائدة. والسؤال هنا: ما هي آثار رفع سعر الفائدة على الاقتصاد المحلي وكيف تساعد في خفض نسبة التضخم؟ تقوم البنوك المركزية برفع سعر الفائدة لمحاربة التضخم في الأسعار من خلال خفض مستوى الاستثمارات والقوة الشرائية والطلب على السلع والخدمات بهدف خفض الأسعار في السوق بشكل عام. فكلما ارتفعت نسبة التضخم، زادت مطالبات العمال بزيادة الأجور، وهذه الزيادة تدفع بتكاليف الإنتاج والاعمال التجارية الى الزيادة مما يؤدي الى التضخم في الأسعار لاحقاً. لذلك تقوم البنوك المركزية برفع سعر الفائدة لخفض مستوى النشاط الاقتصادي الذي يؤدي بدوره لخفض مستوى التضخم. وهذا ما قام به سابقاً الرئيس رونالد ريغن في محاولته لمحاربة التضخم من خلال رفع سعر الفائدة الى 20%. لهذا، يبقى السبب الجذري لارتفاع الأسعار بسبب السياسة المالية في الأساس. تشار بفترة سبعينيات القرن الماضي وامتدادها إلى أوائل الثمانينيات باسم التضخم العظيم التي ارتفع فيها معدل التضخم إلى 14% في عام 1980. وتعتبر سياسات الاحتياطي الفيدرالي التي شجعت زيادة كبيرة في المعروض النقدي من الأسباب الرئيسية للتضخم الكبير. ومع ذلك، فإن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بيرنز، الذي قام، في مذكراته في كتاب انعكاسات صانع السياسة الاقتصادية (1969-1978)، بإلقاء اللوم على الآخرين في التضخم الكبير دون الإشارة إلى التوسع النقدي الكارثي. حيث لام الكثيرون في هذه الحقبة الرهيبة الدول العربية وتسعير النفط. في حينها، كتبت صحيفة وول ستريت جورنال، عند مراجعة هذه الفترة في يناير 1986، «حصلت أوبك على كل الفضل لما فعلته الولايات المتحدة بشكل أساسي لنفسها». حيث ان صناع القرار في الولايات المتحدة ألقوا اللوم على أسعار النفط والمضاربة بالعملة وجشع التجار بدلا من سياساتهم المالية. ويبدوا أن التاريخ يعيد نفسه الآن مع زيارة الرئيس بايدن لقمة جدة للمحاولة في إقناع المملكة العربية السعودية بزيادة انتاجها للنفط بدلا من تعديل سياساته المالية. يقول العالم الاقتصادي ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن التضخم ظاهرة مالية، وأن العلاج الوحيد للتضخم هو خفض المعدل الذي ينمو به إجمالي المعروض النقدي والإنفاق بشكل عام. قد يشتمل هذا العلاج على آثار جانبية مؤقتة، كما أشار فريدمان: «لا توجد طريقة لإبطاء التضخم الذي لا ينطوي على زيادة مؤقتة في البطالة وخفضاً مؤقتاً في معدل نمو الإنتاج. لكن تكاليف هذه السياسة ستكون أقل بكثير من تلك التي سيتم تكبدها من خلال السماح لمرض التضخم بالانتشار دون رادع». فلتجنب التضخم الكبير في الأسعار، يقترح فريدمان ان رفع أو خفض سعر الفائدة يجب أن يكون بناء على كمية توافر المال في السوق. فإذا كان المعروض النقدي منخفضًا، فيجب أن يرتفع سعر الفائدة البنكية لعدم ارتفاع نسبة الديون والتضخم، وإذا كان المعروض النقدي مرتفعًا، فيمكن خفض سعر الفائدة.
مشاركة :