التواصل الافتراضي.. الحياة المبتورة

  • 8/13/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

خالد حسن الطويل خلف كل حاسب آلي وهاتف يقبع شخص ذو شخصية وتربية وفكر، قد يختلف تمامًا عن الذي يقابله في الطرف الآخر، وربما لم يره ولا يعلم من هو، ورسم له في مخيلته صورة ذهنية رائعة كشخصية وفكر، بينما هو على العكس تمامًا، ولكنه يجيد رسم الكلمات فقط. تمر علينا هذه الحلقات المجزأة من مسلسل التواصل الافتراضي بشكل يومي، ومن منِّا لم يتواصل في يوم ما- وإن لم يكن باستمرار- مع أشخاص لم ولن يراهم طوال حياته، ونعلم ذلك؛ لكننا مستمرون. تعددت وسائل التواصل الاجتماعي، وتوغلت في الأسر، وأصبحت تدخل البيوت عنوة؛ حاملة معها الغث والسمين، متجولة في أفكارنا بأريحية وهي تجد منِّا كل ترحيب. دخلت حياتنا دون استئذان، ولم تتح لنا حتى الفرصة لنتعلم كيف نتعامل معها؛ فصرنا نتبنى ما تطرح من أفكار، ونلتقط وننقل أحاديثها؛ بل وجعلها البعض مصدر ثقافته الأوحد، وأصبح يثق فيها ثقة عمياء؛ فيتلقف منها كل شيء، ويهدي منها الأحبة والأصدقاء؛ باعتقاده أنَّ ذلك تكرما منه؛ فأصبح هو الطائي من يكرم الآخرين بسيل من الرسائل والغريدات اليومية. توارت خلفها الوجوه وأصبحت هي القناع الجميل لكل مخادع، وصار مجتمعاً يعج بالمثقفين، وساحاته هي المدينة الافتراضية الفاضلة. هذا العالم الصاخب، سحب البساط من تحت العالم الحقيقي، وهيمن على الواقعية؛ فلا صوت يعلو اليوم عليه، ولا مجال رحب مثله. هجرت اللقاءات واستعاض البشر بالسطور عوضاً عنها. ففيها يلتقي الإخوة، وفي ممراتها يتسامر الأصدقاء، وعلى شرفاتها يسهر الأحبة، وفي زواياها يتحاور الغرباء. ومن لم يتواجد بها سقط من حساب الزمن، وألقي به في صندوق التجاهل. نعم كم هو سخي في تقريب البعيد؛ فاختصر الوقت، ووفر الجهد، وصاغ مفهوما آخر للتواصل يجاري سرعة الأيام التي نحياها، بينما سرق حرارة اللقاءات، ودفء المشاعر الحقيقية، وصنع منِّا مدمنين نحتسيه ليل نهار. وبين هذا وذاك؛ هناك حقيقة يجب إدراكها، وواقع يجب تداركه: إن إهمال التواصل الواقعي اليوم، والانشغال عن الذين بجانبك؛ لأجل تواصل زائف محدود الصلاحية قد ينتهي في أي لحظة، وتجاهل الأشخاص الواقعيين الذين سوف يكملون معك العمر، وهم من سوف يقفون بجانبك عند الأفراح والنوائب، بعدما تتساقط أوراق العمر وتخور القوى، وهم الآذان الصاغية لك عند الحاجة. فالأيام تغربل المحيط ويسقط من منخلها كل زائف. للأسف الكثير منِّا صار يستبدل الواقع والمحيط بعالم افتراضي مبتور يعتقد - متوهمًا- أنه سوف يدرك السراب الذي يلوح من بعيد؛ فينشأ الصغير متوهما أن هذا هو العالم، ويدور الكبير في دوامة التواصل الإلكتروني الذي سوف يتوقف في يوم من الأيام لا محالة. لذلك.. ولكي لا نستيقظ على الحقيقة الحالكة بعد أن نكون قد قضينا جزءا من عمرنا بعيدًا جدًا عن واقعنا؛ يجب تقنين الوقت وتحديد العلاقات في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فذلك غاية في الأهمية، حتى لا نصدم بمرور العمر، ونحن ما زلنا نقف على ذلك الرصيف الافتراضي، وقد فوتنا الكثير من العلاقات الاجتماعية الصحية التي يفترض أن تمضي معنا حتى آخر العمر أو أضعنا فرصا دافئة كانت تمكث بجانبنا؛ بينما تتراقص مشاعرنا للبعيد. فالمفلس هو من قدَّم وقته هدية لشركات التواصل الاجتماعي بلا عائد، وهو من بنا عمره على علاقات وتواصل في عالم افتراضي وهمي، وأهمل العلاقات الحقيقية القائمة حوله. الاستيقاظ من غفلة هذا التواصل والتفكير في العائد مطلب مرجو في كل مراحل العمر؛ فما نمارسه في مرحلة قد لا يصلح أن نصطحبه معنا إلى مرحلة أخرى؛ حتى لا نستفيق على الإفلاس في وقت لا يمكن فيه العودة إلى الخلف، والجميل أن نعطي كل جانب حقه؛ لنعيش حياة متوازنة اجتماعيًا.

مشاركة :