برهن الغضب الشعبي في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الموالية لتركيا عقب دعوة مسؤولين أتراك للمصالحة مع النظام السوري على تنامي مخاوف المتطرفين والجماعات المسلحة في شمال سوريا من وجود تفاهمات خفية من شأنها التضحية بهم والعصف بمكتسباتهم. وخرج الآلاف في مظاهرات متفرقة قبل أيام في مناطق تسيطر عليها فصائل مسلحة معارضة للنظام السوري في شمال وشمال غرب البلاد ونددوا بتصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو التي دعا فيها إلى مصالحة بين دمشق والمعارضة لتحقيق ما أسماه بـ”سلام دائم”. ورُفعت خلال المظاهرات التي شهدتها مناطق الشمال السوري وشملت مدنا كأعزاز وعفرين وجرابلس وإدلب شعارات “لن نصالح” و”الثورة مستمرة”، وفي أخرى “ضامن وليس وصيا”، في إشارة إلى دور تركيا كطرف ضامن لوقف إطلاق النار في مناطق الشمال السوري. وتُعد الدعوة التركية للمصالحة بين النظام السوري والمعارضة انعطافة مفصلية قد تقود إلى تغيير هائل في العلاقات بين أنقرة ودمشق بعدما ظل النظام التركي منذ العام 2011 داعما رئيسيا للمعارضة السورية ومحتضنا لقياداتها. تعويم المعارضة تركيا تسعى لجني ثمار المصالحة بين النظام السوري والمعارضة عبر تكريسه لمواجهة الأكراد تفتح التصريحات التركية الباب أمام سيناريوهات عديدة تتعلق بعودة العلاقات المنقطعة منذ أكثر من عقد بين تركيا وسوريا، وتجعل تعويم المعارضة السورية ونزع سلاحها وتسوية أوضاعها في سياق مصالحة شاملة مع النظام خيارا مطروحا على الطاولة. وتبددت آمال أنقرة في أن تحقق أهدافها في الساحة السورية بالتدخل العسكري المباشر ليس فقط لمعارضة القوى الدولية لعمليتها العسكرية وإنما أيضا كون أي توغل عسكري واسع النطاق بات مرشحا ليتحول إلى مشهد استنزاف بما يفاقم شعبيتها المتراجعة. وبات من الواضح أن تراجع تركيا عن تنفيذ تهديداتها بشن عملية عسكرية جديدة في سوريا وسط حديث عن لقاء قريب بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد، تقف وراءه تفاهمات جديدة بشأن الملف السوري جرى التوافق عليها بين الرئيس التركي ونظيريه الإيراني والروسي في القمة الثلاثية التي عُقدت بطهران في 19 يوليو الماضي. ونص البيان الختامي للقمة على “رفض أي مخططات لتقسيم سوريا والالتزام بسيادة البلاد ومنع محاولات خلق واقع جديد على الأرض”. وتشير تطورات الأيام الماضية إلى أن هناك معادلة جديدة تتشكل بدفع من كل من موسكو وطهران تقضي بتطبيع أنقرة لعلاقاتها مع دمشق. وبدا أن قمة طهران بمثابة أستانة ثانية، حيث صاغت أستانة الأولى عام 2017 معادلة خفض التصعيد بمناطق المواجهة بين النظام والمعارضة، ما ترتب عليه من تسويات لأوضاع الفصائل المسلحة طبقا لشروط محددة بضمانة ثلاثية من قبل روسيا وتركيا وإيران. Thumbnail وصدر حلفاء دمشق معادلة جديدة تشمل إحداث انقلاب في موقف أنقرة من دمشق تتيح ممارسة ضغوط محسوبة مستقبلا على المصالح الأميركية في الشمال السوري، وتقضي بغلق باب خلافات الأتراك مع دمشق. ويخدم هذا السيناريو روسيا وإيران للتخفيف من تعارض المصالح في الملف السوري وتحييد الخلافات مع تركيا بشأن إدلب، ويمنح أنقرة آليات بديلة عوضا عن الحلول العسكرية لتحقيق الحد المقبول والمتاح من أهدافها في الشمال السوري. وفي حال إتمام هذه الخطة بإجراء تفاهمات بين سوريا وتركيا لن تحتاج الثانية لتتمدد عسكريا في الشمال السوري حيث تتولى دمشق كبح أي تحركات كردية. ووفق هذا التصور فإن النظام التركي لم يعد ينظر للمعارضة السورية المسلحة كأداة لتقويض النظام وإسقاطه إنما يسعى للتقريب بين النظام وبين معارضيه وجني ثمار هذا التقارب عبر تكريسه لمواجهة وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من الولايات المتحدة والمسيطرة على معظم مناطق حقول النفط في شرق سوريا. بيع الفصائل المسلحة نزع سلاح المعارضة وتسوية أوضاعها في سياق مصالحة شاملة مع النظام باتا خيارا مطروحا على الطاولة يمنح هذا التحول أنقرة فرصة التخفف من أعباء فصائل المعارضة المسلحة بأطيافها المختلفة، بعد أن ضعف رهانها عليها نظرا لتشرذمها وفشلها وانخراطها في صراعات داخلية. ورفضت تركيا مرارا الرضوخ للضغوط الروسية بشأن تنفيذ بنود التفاهمات الثنائية بينهما، خاصة تفاهم مارس لعام 2020، حتى لا تتأثر سلبا علاقاتها بالجماعات الجهادية التي تدعمها منذ سنوات. وتقود مراعاة تركيا لتفاهماتها القديمة والجديدة مع روسيا وإيران إلى تقويض نفوذ الجهاديين السنة في الشمال السوري وتقليص نشاطهم وربما التخلص نهائيا من حضورهم في محيط الطريق الدولي السريع إم4 الواصل بين اللاذقية وحلب. ويفضي تغيير المعادلات مستقبلا إلى تهميش الفصائل المتطرفة المدعومة من تركيا حيث ستفقد دورها الوظيفي في محاربة قوات النظام السوري بالوكالة، وفي هذه الحالة سيقل إلى الحد الأدنى الاعتماد على فصائل المعارضة السورية بعد أن كانت وظيفتها الرئيسية تتمحور حول إشعال الخلافات بين دول أستانة وافتعال المعارك في محيط إدلب بطلب تركي. وكان أحد السيناريوهات المتوقعة أن تبيع أنقرة الفصائل المسلحة المدعومة منها في مرحلة من المراحل للانتقال إلى مستوى أكثرا نفعا لمصالحها من التعاون مع القوى الفاعلة في الملف السوري من خلال تكريس تبادل المنافع مع كل من روسيا وإيران. تركيا لم تعد مستعدة لتحمل المزيد من تجارب فشل وكلاء من تيار الإسلام السياسي والجهادي في المنطقة في السلطة ويبدو أن أنقرة لن تحصل على حلول عملية من قبل روسيا بجهود مباشرة لحليفها السوري متعلقة بالهواجس الأمنية تجاه مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلا إذا استجابت لمطلب روسيا الخاص بتفكيك البنى الإرهابية المدعومة تركيا والمتمركزة في شمال سوريا. ومقابل الضغط باتجاه إجراء تسوية شاملة تنهي تمرد الفصائل المعارضة المسلحة وتضع حدا لانفصالها بمناطق حكم ذاتي، تحصل أنقرة على شراكة نوعية مع النظام تحقق لها أهدافا بات من الصعب تحقيقها بتدخل عسكري مباشر وفي مقدمتها التعاون لإضعاف نفوذ المكون الكردي. ولم تعد تركيا مستعدة لتحمل المزيد من تجارب فشل وكلاء من تيار الإسلام السياسي والجهادي في المنطقة في السلطة، بالنظر إلى عدم توقف الاحتجاجات الشعبية بالمناطق الخاضعة لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) أو المناطق الخاضعة للجيش الوطني المعارض المرتبط بأنقرة. وارتد الغضب الشعبي مرارا نتيجة المظالم والانتهاكات والفساد المستشري وتردي الخدمات وغلاء الأسعار وانتشار البطالة في إدلب ومنطقتي درع الفرات وغصن الزيتون على تركيا مباشرة، ما وضح في رفع الجموع الغاضبة شعارات تطالب بتحرير سوريا من المحتل التركي. الخيار البديل لا تتوفر لدى المعارضة السورية برامج دعم وتحالفات بديلة إذا ما اختارت عصيان توجيهات تركيا الخاصة بالحوار مع الدولة السورية بعدما كان المزاج الشعبي ينظر إلى القوات التركية بتقدير من منطلق حمايتها للثورة وكونها ضامنة لاستمرارها لحين حصول السوريين على مطالبهم، بات ارتباط أنقرة بفصائل متصارعة تتقاتل بشكل شبه يومي للانفراد بالسلطة والنفوذ والمال نقمة عليها وسببا رئيسيا في تحول نظرة غالبية السوريين تجاهها. ولذلك لجأت أنقرة إلى الخيار البديل الذي يتوافق مع تحولات سياستها الخارجية الأخيرة وهو إعادة علاقاتها مع دمشق تكريسا للعودة التدريجية تجاه تصفير المشاكل بعد عقد من التورط في مشكلات الدول العربية. وتكاد تكون الخيارات معدومة أمام فصائل المعارضة والجهاديين السنة في الشمال السوري بعد أن اختار الأتراك لأنفسهم لعب دور الوسيط بين المعارضة والنظام، بدلا من دور الحليف والحاضن الذي ظلوا يلعبونه لأكثر من عشر سنوات، خاصة مع الجماعات المتطرفة. ولا تتوفر لدى المعارضة السورية برامج دعم وتحالفات بديلة إذا ما اختارت عصيان توجيهات تركيا الخاصة بالحوار مع الدولة السورية. وفشلت هيئة تحرير الشام التي تُعد الفصيل المسلح الأقوى في الشمال السوري في إقناع الولايات المتحدة والقوى الغربية بها رغم تنصلها مرارا من الجهاد العالمي وحرصها على التعاون في ملاحقة معتنقيه وناشطيه. وزاد انخراط هيئة تحرير الشام مؤخرا في صراعات وحروب إلغاء مع رفاقها في المنهج من تصميم أنقرة على تبني سياسات التذويب والدمج التي من شأنها إلغاء تعددية تلك الكيانات وجعلها كيانا واحدا يضع المصالح التركية في مقدمة أولوياته. تركيا لن تملك إجراء تغييرات ملموسة في سياساتها تجاه الملف السوري بما يخلق فرص تعاون وتخفيض للصراعات والتوترات وإيجاد حل مستدام للأزمة ويُعجل اقتراب أنقرة من تدشين مصالحة مع النظام السوري من تنفيذ خطة دمج حكومة الإنقاذ التي تشرف عليها هيئة تحرير الشام في إدلب مع الحكومة المؤقتة التي تدير مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام المحتلة من القوات التركية. يُعد دمج هيئة تحرير الشام مع الهياكل العسكرية الأخرى للمعارضة المسلحة لاسيما الجبهة الوطنية للتحرير بمثابة تفكيك للهيئة، وهي خطوة عملية تترجم الرضوخ التركي للتصورات الروسية والإيرانية وتسرّع من وتيرة التقارب التركي السوري. ومن خلال الضغط باتجاه إعادة بناء العلاقات بين المعارضة والحكومة السورية، تضفي أنقرة بعض المصداقية والثقة على علاقاتها بموسكو، بعد تنصلها المتكرر من تنفيذ تعهداتها بالقضاء على التنظيمات الإرهابية التي أدرجتها روسيا ضمن اتفاق خفض التصعيد بإدلب في مارس 2019. ولن تملك تركيا إجراء تغييرات ملموسة في سياساتها تجاه الملف السوري بما يخلق فرص تعاون وتخفيض للصراعات والتوترات وإيجاد حل مستدام للأزمة يحافظ على ما تبقى من قاعدة شعبية للحزب الحاكم بتركيا إلا بإحداث تغيير جذري بورقة التنظيمات المسلحة في الساحة السورية.
مشاركة :