الترجمة الأدبية عوالم قد تخفي أيديولوجيا المترجمين

  • 8/16/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أصبحت مسألة نقل الحقائق إلى الآخر نسبية في أحيان كثيرة، فهي تعتمد على توجه الناقل وماهية أفكاره مرورا بمعتقداته وواقعه الفكري والثقافي والاجتماعي، وهذا الأمر ينطبق على تأثير المترجم على النص المترجم، فذلك التأثير أمر لا بد منه، لكن دون التدخل المباشر لتحريف الفكرة الرئيسية للنص المراد نقله بلغة غير اللغة الأم؛ لأن هذا الأمر بالغ الحساسية وهام جدا لدى المتلقي. وثمة آراء تتفق في طرحها حول تدخل المترجم في تغيير الصورة الحقيقية للنص المترجم ونقلها إلى الآخر وفق معتقداته، والظروف التي من الممكن أن تبيح للمترجم أدلجة ذلك النص وفق معتقداته وأفكاره وما يمليه عليه وعاؤه الثقافي والفكري. الترجمة والأمانة في هذا الإطار يقول الدكتور اللبناني شوقي الريس رئيس قسم الترجمة الفورية في الاتحاد البرلماني الدولي “في كتابه المرجعي الشهير ‘فلسفة اللغة‘ ينقل كمال الحاج عن المفكر والروائي الفرنسي أندريه جيد قوله ‘الترجمة فعل مرجلة وتحد لا يجب أن تترك إلى أقزام الدواة‘، وهذا القول يلخص بمقدار كبير موقفي من الترجمة التي كرست جل نشاطي للجانب الفوري/ الشفوي منها، نائيا قدر المستطاع عن شقها التحريري الذي لي ملاحظاتٌ قاسية جدا على معظم الذين يتصدون له، رغم إدراكي التام للظروف والصعاب المحيطة به في عالمنا العربي”. شوقي الريس: المترجم لا سلطان له على مضمون النص ويضيف الريس “الصورة الحقيقية للنص المترجم هي جوهر المعنى الذي يحمله، وبالتالي لا يحق للمترجم مهما بلغ شأنه أن ينتهك هذه الصورة بأي ذريعة أو أي مبرر، فالمترجم لا سلطان له على مضمون النص الذي يفترض به أن يصونه بأقصى درجات الأمانة، وبما أوتي من إحاطة باللغة الأصل ومنحنياتها وأبعادها الثقافية والتاريخية، أما الشكل فهو الملعب الفسيح أمام المترجم ومداه المطلق، يجول فيه بحرية شبه مطلقة له أن يرتكب ما شاء واقتدر من أفعال، شريطة أن لا تعلو هذه الأفعال على حدود جمالية النص الأصلي أو تنال من رصانته أو تنتقص من وضوحه”. ويؤكد الريس “لا أعتقد أن ثمة ما يبيح للمترجم أدلجة النص وفقا لمعتقداته وأفكاره، أو ما تمليه عليه مشاربه الثقافية إلا في حالات معينة ومحدودة جدا، تمليها مقتضيات تعبيرية بحتة تنبع بشكل طبيعي وعفوي من سياق النص، ولا يجدر بالمترجم أبدا أن يسعى إليها أو أن يستنبطها من غير حاجة، ويبقى أن الترجمة اليوم إلى لغة الضاد تعاني من استشراء الاستسهال، والتعدي الناشئ عن قلة الاقتدار والإلمام اللغوي والشروط المهنية الضعيفة، لكن من غير أن تكون هذه أسبابا تخفف من وطأة الحيف الذي يلحق بالأعمال المنقولة إلى العربية”. أما المترجم العماني يعقوب المفرجي فيضيف في هذا السياق قائلا “من وجهة نظر نقدية على المترجم أن يتوخى الأمانة في نقل النص كما هو في أصله، ومتى ما تعدى المترجم على هذه القاعدة فقد تعدى على تعريف الترجمة ذاتها؛ ومن نقاد الترجمة من لا يعتد أساسا بالنصوص التي تنقل من لغة إلى أخرى لأهداف مباينة لما وضع له الأصل، بل يقولون هذه ليست ترجمات وإنما يسمونها اقتباسات أو ملخصات أو غير ذلك من التعديلات”. ويشير “من وجهة نظر أخلاقيات مهنة الترجمة فالمترجم مستأمن على رسالة النص الأصل، ومتى ما اضطر إلى الحياد عنها وجب عليه بيان ذلك في موضعه حتى لا يقول مؤلف الأصل ما لم يقله – من جهة – وحتى لا يوهم قارئ الترجمة بما ليس في النص الأصل – من جهة أخرى – فيبني أحكاما مغلوطة ويخرج باستنتاجات مشوهة، ولذلك على المترجم أن يتحمل مسؤولية قراراته الترجمية وأن يكون مستعدا لتبرير كل حيثيات ترجمته، وعموما لو أعطينا نصا لمترجمين اثنين لاستحال تطابق ترجمتيهما تطابقا تاما، لكن يتسنى لنا اعتبار كلتيهما ترجمتين ما دام كل منهما ملتزما بشرط الأمانة والدقة”. ويوضح يعقوب المفرجي “لا أؤمن بوجود ظروف تبيح للمترجم أدلجة النص وفق معتقداته وأفكاره على حد ما أوضحت أعلاه، وإن حصل ذلك فلن أعد نتاجه ترجمة وإنما تأليفا جديدا له معايير نقدية مختلفة عما قد نتبعه في الحديث عن الترجمات الحقيقية، ويبقى أن مثل هذا التغيير قد تمليه توجهات شخصية أو تفرضه متطلبات مؤسسية كفيلة بتغيير طبيعة عمل المترجم جذريا“. التغريب والتوطين يعقوب المفرجي: لا توجد ظروف تبيح للمترجم أدلجة النص وفق معتقداته أما المترجم الهندي رضوان أحمد الأستاذ المشارك في اللغويات بجامعة قطر فيشير في هذا الجانب “لا نستطيع أن ننكر حضور المترجم وبصمته الثقافية والفكرية في جميع أعماله التي يقوم بترجمتها، وفي غالب الأحيان، هذا الحضور لا يشكل أثرا كبيرا على النص الذي قام بترجمته، وفي أحيان أخرى يتجاوز هذا الحضور المسموح به”. ويضيف رضوان “هناك درجات أخرى في عوالم الترجمة والتي لا يمكن للمترجم التدخل فيها أو أدلجة حقيقتها، فاليوم ولأن اللغة العربية عميقة جدا ولكل كلمة معان كثيرة وقد تأتي عكس ما يتصور المترجم، فعليه أن يختار عبارات تتوافق مع السياق المراد إيصاله إلى المتلقي كي يفرق هو الآخر بين ما تذهب إليه تلك العبارات، ولا يكون في لبْس أو يغم عليه معنى دون غيره”. في نهاية هذا الطرح لا تبتعد المترجمة العمانية فاطمة العجمية عمّا ورد من وجهات النظر وتقول “يعتمد ذلك على عدة عوامل وظروف مختلفة؛ فقد يكون هذا التغيير واضحا يظهر في أجزاء كبيرة في النص المترجم، ومقصودا يضمن فيه المترجم معتقداته وأفكاره لتمريرها إلى الثقافة الأخرى لأغراض مختلفة نابعة من انتمائه أو تحيزه لهوية معينة، دينية كانت أم سياسية أم وطنية أم مجتمعية أم ثقافية أم غيرها، وهذا ما أعده تشويها لجوهر الترجمة، بل وخيانة لنصها الأصل”. وتضيف “أن يكون هناك تغيير ضمني في عدد قليل من المفردات أو التراكيب اللغوية بشكل تلقائي أو غير تلقائي، تدخل فيه ‘ذات المترجم‘ وهو ما تحدده جوانب عدة مرتبطة بالهدف من الترجمة وجمهورها المستهدف والخلفية اللغوية والثقافية والشخصية للمترجم والظروف المحيطة بها”. رضوان أحمد: لا ننكر حضور المترجم وبصمته الثقافية والفكرية وتبين “في الترجمة الأدبية على سبيل المثال توجد إستراتيجيتان أساسيتان يلجأ المترجم إلى اتباع إحداهما؛ إستراتيجية عامة والأخرى ثانوية للنص الذي يترجمه، وهما ‘التغريب‘ و‘التوطين‘، إذ يمكن أن يميل المترجم إلى الاحتفاظ بالجوانب الثقافية للنص الأصل، ونقلها كما هي في النص الهدف، وهو بذلك يبقي النص ‘غريبا‘ في عمومه على الثقافة الهدف، غير أنه حقيقي لم تتغير صورته في هذه الحالة، أو أن ‘يوطن‘ بعض تلك العناصر لتناسب الجمهور المستهدف وتتفق والغرض من الترجمة، ويتفاوت هنا حجم التغيير وأسلوبه، بحيث يجب أن لا يؤثر ذلك على روح النص ولا يخل بمعانيه، وفي جميع الأحوال ينبغي أن يعتمد كل تغيير فيه على مسوغ واضح وأساس مقنع”. وتقول “يمكن للأدلجة أن تظهر بصورة أكثر جلاء عند ترجمة النصوص الإعلامية، لما يتسم به هذا النوع من النصوص من تباين وجدلية في التوجهات والأفكار والآراء؛ إذ يعتمد فيه المترجم على توجه المؤسسة التي يعمل بها وأيديولوجيتها، مما يقوده في بعض الأحيان إلى تغيير بعض المقابلات اللغوية لتتسق مع توجه تلك المؤسسة، فإضافة مفردات بسيطة جدا في ظاهرها كـ ‘طالما، ودائما، وغالبا‘، على سبيل المثال، قد تضيف تأثيرا عميقا يمكن أن يغير مسار الترجمة وتوجهها، ناهيك عن بعض التراكيب والمفردات التي تختلف باختلاف الخلفيات السياسية والأيديولوجية للمترجم أو لموقعه العملي، كاستخدام قتيل عوضا عن شهيد، ونظام عوضا عن حكومة، وحرب عوضا عن اعتداء والعكس صحيح”. وتتابع “كل هذه ظروفٌ محيطة قد تسهم بشكل أو بآخر في تغيير جزء أو أجزاء من النص الأصل، إلا أن الأصل في الترجمة عموما اعتمادها على الهدف، فمتى ما كانت تسير في مساره دون تحريف تحققت فيها جوانب الوفاء، فالترجمة في نهاية الأمر “شكلٌ من أشكال التأويل” كما يصفها أمبرتو إيكو، لكنها لا تقبل الأدلجة بمفهومها الشامل وإلا تحولت إلى نص مربك لا يمت إلى أصله بأي صلة“.

مشاركة :