بعد سحب آخر جنودها من مالي، تسعى فرنسا لمساعدة دول غرب أفريقيا على “النجاح في المعركة ضد الإرهاب”، من دون أن تعلن عن إستراتيجيتها الجديدة التي تقوم على الانسحاب من المواجهة المباشرة مع الجهاديين ودفع القوات النظامية لدول المنطقة إلى عمل ذلك على أن تتولى هي الإشراف والتوجيه وتقديم النصائح. يأتي هذا في وقت تتسع فيه أنشطة الجهاديين لتخرج عن نطاق دول الساحل وتمتد إلى خليج غينيا. وتجد فرنسا نفسها في وضع معقد، فهي لم تعد قادرة على قيادة العمليات ضد المتشددين، وفي نفس الوقت لا تريد أن تخلي المكان وتبدو وكأنها انسحبت فعليا وهي التي تواجه منافسة إستراتيجية تزداد حدة بين القوى الكبرى وعلى رأسها روسيا. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نهاية يوليو خلال زيارة إلى غينيا بيساو إن “فرنسا ستواصل تعزيز نشاطها في المنطقة لخدمة الدول ذات السيادة الشرعية (…) لأننا نعتبر أن دورنا هو مساعدة المنطقة على النجاح في هذه المعركة ضد الارهاب”. إيمانويل ماكرون: فرنسا ستواصل تعزيز نشاطها في المنطقة لخدمة الدول ذات السيادة الشرعية وقبل يومين من ذلك في الكاميرون، عبّر ماكرون عن أمله في أن تعمل فرنسا “على نحو أفضل وأكثر فاعلية” في أفريقيا حيث يبدو بشكل واضح أن القوة الاستعمارية السابقة تسجل تراجعًا سريعًا أمام منافسيها: تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، وخصوصا روسيا التي تحاول التفوق على الفرنسيين في منطقة نفوذهم. ولخص ضابط فرنسي متمركز في غرب أفريقيا الوضع بقوله “لم نعد سوى طرف واحد من بين أطراف أخرى”. وغادر الجيش الفرنسي مالي الاثنين بعد تسع سنوات من مكافحة الجهاديين، بعدما دفعه إلى الخروج المجلس العسكري الحاكم في هذا البلد منذ 2020 والذي يعمل حاليا مع مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية. لكن الرئاسة الفرنسية أكدت في بيان الاثنين أن “فرنسا مازالت منخرطة في منطقة الساحل” وكذلك “في خليج غينيا ومنطقة بحيرة تشاد” في إطار “مكافحة الإرهاب”. وعلى الرغم من خفض حجم القوات إلى النصف ليصبح أقل من 2500 جندي مقابل 5500 في ذروة انتشار قوة برخان، لا تريد باريس التخلي عن مكافحة جهاديي تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية الذين تم احتواؤهم لفترة طويلة في منطقة الساحل وباتوا يتمددون باتجاه الجنوب. لكن تدخلاتها العسكرية ستصبح “أقل ظهورا وأقل انكشافا”، على حد تعبير إيمانويل ماكرون، خصوصا لتجنب إثارة مشاعر العداء ضد الفرنسيين. والرهان كبير. ففرنسا تريد تجنب تراجع إستراتيجي في مواجهة خصومها أو منافسيها في هذه القارة التي يتوقع أن يبلغ عد سكانها 2.5 مليار نسمة في 2050. وقال جنرال فرنسي ملخصا الوضع، إن “الروس لديهم أولوية عملياتية حقيقية لاعتراض الفرنسيين في مجال المعلومات في أفريقيا. إنهم يمارسون ضغوطًا قوية لمحاولة طردنا عبر شبكات التواصل الاجتماعي من خلال فاغنر”. وتقول مصادر متطابقة لوكالة فرانس برس إن مجموعة فاغنر تتمركز في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي بعرض خدمات واضح: الأمن ضد أي انقلاب ومساعدة قضائية لإبقاء النظام الحاكم، مقابل استغلال ثروات معدنية. لكن بمعزل عن التحدي الروسي، تبقى مكافحة أعمال العنف التي يرتكبها الجهاديون وتهدد شركاءها الأفارقة وتغذي الهجرة إلى أوروبا، أمرا لازمًا بالنسبة إلى فرنسا التي تريد التحرك بتكتم “لأن الظهور مع الفرنسيين يعطي انعكاسًا سلبيا”، على حد قول ضابط فرنسي. وأوضح قائد عملية برخان الجنرال لوران ميشون مؤخرا “نسير باتجاه مزيد من عمليات التعاون المرتبطة بصرامة أكبر بطلبات الدول الأفريقية عبر تقديم ‘الدعم’ لها وليس ‘الحلول محلها"”. غراف وتجري المناقشات بشكل جيد لتقييم مطالب الشركاء الذين تريد فرنسا تأمين المزيد من الأماكن لضباطهم في كلياتها العسكرية. وفي منطقة الساحل وافقت النيجر على الإبقاء على قاعدة جوية فرنسية في نيامي ونشر 250 جنديًا لتوفير الدعم لعملياتها العسكرية على الحدود المالية. وستواصل تشاد استضافة قوة فرنسية في نجامينا، بينما يأمل الفرنسيون في الإبقاء على كتيبة من القوات الخاصة في واغادوغو ببوركينا فاسو. وفي خليج غينيا يمكن للقوات الفرنسية في ساحل العاج حيث تتعاون مع الجيش، أن تؤمن وسائل للمراقبة في شمال البلاد بطلب من أبيدجان. أما بالنسبة إلى بنين وتوغو “فهناك طلب لتقديم دعم فرنسي على شكل مساندة جوية وفي الاستخبارات والتجهيزات”، بحسب الإليزيه. وباشر الجهاديون نشاطهم في بادئ الأمر في مالي. ثم تمدّدوا إلى النيجر وبوركينا فاسو. ويُخشى الآن أن يصلوا إلى الدول الساحلية على خليج غينيا، مع تقدم الخطر الجهادي في غرب أفريقيا جنوبا من منطقة الساحل صوب الشريط الممتد من بنين إلى ساحل العاج. وأورد معهد “كونراد أديناور” الألماني أن “تدهور الوضع الأمني في بوركينا فاسو ومالي يجعل من شمال الدول الساحلية خط الجبهة الجديد ضد المجموعات المسلحة الناشطة في الساحل”. تدهور الوضع في بوركينا فاسو ومالي يجعل من شمال الدول الساحلية خط الجبهة الجديد ضد المتشددين وإزاء تزايد عمليات التوغل وأحيانا الهجمات الدامية في أطرافها الشمالية، تعمل بنين وتوغو وغانا وساحل العاج المطلة على خليج غينيا على تطوير ردها الأمني والسياسي. ومن بين الدول الساحلية هذه، دفع شمال بنين الثمن الأغلى إذ شهد عشرين هجوما على قوات الأمن منذ نشر الجيش فيه أواخر 2021. وقال ضابط من بنين متمركز على الحدود مع بوركينا فاسو “ما نعيشه مروّع. نستيقظ كل صباح من غير أن ندري إن كنّا سنبصر اليوم التالي”. وفي نهاية يوليو طلب رئيس بنين باتريس تالون من نظيره الفرنسي خلال زيارة إلى كوتونو أن يساعده على حيازة المزيد من المعدات ولاسيما طائرات بدون طيار.
مشاركة :