لا تزال عمليات حماية المبلغين عن حالات الفساد في تونس تثير الجدل، رغم ترسانة القوانين والتشريعات الداعية إلى توفير الحماية اللازمة لهؤلاء من مضايقات تصل حدّ التهديد بالقتل، ما طرح تساؤلات لدى المتابعين بشأن تفعيل تلك الإجراءات، ومدى سهر السلطات على إنفاذ القانون. وتولى الرئيس التونسي قيس سعيد، الأربعاء، ختم دستور الجمهورية التونسية الجديد، “دستور 25 يوليو 2022″، والإذن بإصداره. وأعلن خلال كلمة بثّها التلفزيون الرسمي، أنه “سيتم في الفترة القادمة وضع قانون انتخابي جديد وإرساء المحكمة الدستورية للحفاظ على علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات بشكل خاص”. نبيل الرابحي: الدولة العميقة أقوى من القوانين والعديد من المبلغين يقبعون في السجون وتحدث الرئيس سعيد مجددا عن “الوظيفة القضائية”، وأكد مرة ثانية على “الواجب المحمول على القضاة ” وعلى ضرورة “تساوي الجميع أمام القضاء”. وعبّر، في المقابل، عن “أسفه” لـ”حصول تجاوزات، على غرار الزجّ بالمبلغين عن الفساد” في السجن. كما شدّد في كلمته على أن الشعب “يريد تطهير البلاد وأن على القضاء أن يكون في الموعد لمحاسبة كل من خرّب البلاد واستولى على حقوق الشعب ومقدراته”. وعلى الرغم من ترسانة القوانين، التي توفر الحماية للمبلغين عن قضايا الفساد، إلا أن أطرافا عديدة عبرت عن امتعاضها من تواصل التهديدات والمضايقات ضدهم، ما يهدد حياتهم وممتلكاتهم. ويقول مراقبون سياسيون، إن الإطار القانوني والتشريعي لا يكفي لحماية المبلغين عن ممارسات الفساد، مطالبين بضرورة تفعيل الحماية القانونية والقضائية والأمنية. وأفاد الناشط السياسي حاتم المليكي “قانون 2017 الذي يُعنى بحماية المبلغين عن الفساد لم يعط نتائج منتظرة، ولا بدّ أن تكون هناك ثقافة كاملة لحماية المبلغين، منها الحماية الوظيفية في بعض المؤسسات العمومية، كما أن الإطار التشريعي لا يكفي لذلك”. وأضاف لـ”العرب”، “بعد قرارات الخامس والعشرين من يوليو 2021، التبليغ عن الفساد زاد سوءًا خصوصا بعد غلق مقرّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتراجع عدد عمليات التبليغ”. ودعا المليكي إلى ” ضرورة المرور من التشريعات إلى سلطة القرار وسلطة تنفيذه، وإعطاء ذلك صلاحيات واسعة، والتفريق بين البلاغات الكاذبة ومن لها سند حقيقي، فضلا عن توفير الضمانات الجدية داخل المؤسسات لحماية المبلغين، ونقطع مع عملية التبليغ كثقافة وشاية”. والثلاثاء، دعا منير السويسي، صحافي بوكالة تونس أفريقيا للأنباء، الرئيس سعيّد لحماية المبلغين عن الفساد، معتبرا أنهم “يتعرضون لعمليات تصفية إدارية على خلفية فضحهم للفساد والفاسدين بمؤسسات عمومية”. وأكد السويسي في تدوينة نشرها بصفحته على فيسبوك أن “المتصرف المفوض في وكالة تونس أفريقيا للأنباء نبيل قرقابو المعين من قبل حكومة هشام المشيشي أصدر يوم 15 أغسطس الجاري قرارا يقضي بإحالته على مجلس التأديب”، لافتا أن “القرار جاء بعد أيام من توجيهه مراسلات إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيسة الحكومة نجلاء بودن والكاتبة العامة للحكومة سارة رجب بشأن الفساد في الوكالة”. وأضاف السويسي أنه “أودع مراسلة أولى بمكتب الضبط لدى رئاسة الجمهورية يوم 22 يوليو الماضي، وثانية بمكتب الضبط المركزي لرئاسة الحكومة يوم 11 أغسطس الجاري”. كما أشار إلى أنه “طالب في المراسلتين بإنهاء مهام نبيل قرقابو والأمجد الحمداني مدير التحرير في الوكالة” وإلى أنه “اعتبر أن تعيين الحمداني تم بتعليمات من حكومة يوسف الشاهد ضمن مخطط لوضع اليد على الوكالة”. قانون حماية المبلغين عن حالات الفساد لم يعط نتائج منتظرة في مسار مكافحة الفساد في المؤسسات العمومية وتساءل السويسي “عما إذا كانت هذه المراسلات تصل فعلا إلى رئيس الجمهورية وإن كان الرئيس على علم بعمليات التصفية الإدارية التي يتعرّض لها المبلغون عن الفساد في المؤسسات العمومية استنادا إلى قوانين داخلية بالية تحمي الفساد والفاسدين”. وعبّر في ختام تدوينته عن “استغرابه الشديد من إشراك مصالح رئاسة الجمهورية صحافية من (وات) ضالعة في نهب المال العام بالمؤسسة وتحظى بحماية الإدارة في إحدى لجان الإعداد لقمة تيكاد 8″ متسائلا “كيف سيكافح رئيس الجمهورية الفساد والحال أن بعض الفاسدين نجحوا في التسلل إلى محيط الرئاسة؟”. ويبدو أن قانون حماية المبلغين عن حالات الفساد، الذي صادق عليه البرلمان التونسي (المنحل) في فبراير 2017، لم يعط نتائج منتظرة في مسار محاصرة اللوبيات ومكافحة الفساد المستشري في المؤسسات العمومية، واصطدم بغياب إرادة سياسية جعلت من كاشفي تلك العمليات المشبوهة تحت التهديد. وتعطي الحلول الراهنة لمحة عن أن هناك حلقة مفقودة في العمل على هذا المسار وربما تتقهقر العملية برمتها إذا لم يتم أخذ الأمور بجدية أكبر على الرغم من الإصرار الكبير الذي تبديه السلطات أو حتى المنظمات العاملة في هذا المجال من أجل اقتلاع جذور هذه الآفة بالطرق القانونية. ودعا متابعون للشأن التونسي إلى ضرورة استقلالية القضاء كعامل أساسي في حماية المبلغين عن الفساد والنظر في القضايا المطروحة، منبهين من تحول تلك القضايا إلى ملفات تصفية حسابات وتسجيل نقاط سياسية. وقال المحلل السياسي نبيل الرابحي “هناك قوانين، لكن الدولة العميقة أقوى من ذلك، والعديد من المبلغين عن الفساد الآن يقبعون في السجون”. وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “لا بدّ من تفعيل القوانين والتشريعات اللازمة، إلى جانب أهمية استقلالية القضاء”. واعتبر المحلل السياسي باسل الترجمان أنه “لا وجود لضمانات حقيقية لحماية المبلغين، بل تم إيقاف البعض في العديد من المرات، وهذا الملف تحوّل إلى ملف تصفية حسابات، وبعض الملفات تحولت إلى قضايا رأي عام”. وصرّح لـ”العرب”، “قضايا الفساد معقّدة ولا بدّ من توفير ضمانات حقيقية لحماية المبلغين في أبعادها القانونية والقضائية والأمنية، كما أن ملفّات بهذا الحجم لا يجب أن يكون مكانها وسائل التواصل الاجتماعي، ليست قضية استعراض بطولات بل هي قضايا تهم الدولة والمؤسسات والشعب”. ويتصاعد الجدل في تونس بسبب تعرض العديد من المبلغين عن قضايا فساد إلى المضايقات والتهديدات تصل إلى تهديد حياتهم، في ظل جدل قانوني وسياسي واجتماعي، ما يطرح مدى قدرة المنظومة القانونية الحالية على محاسبة الفاسدين. باسل الترجمان: لا وجود لضمانات حقيقية لحماية المبلغين والملف تحوّل إلى تصفية حسابات وفي وقت سابق، واجهت نوال المحمودي، وهي مسؤولة بارزة في وزارة الصحة ومسؤولة عن المراقبة الصحية بميناء سوسة تهديدات بالتصفية الجسدية بسبب فضحها لقضية فساد في الميناء، وكان يفترض أن تكون تحت حماية ذلك القانون. وفي ظلّ عجز المسؤولين عن اتخاذ الإجراءات اللازمة استنجدت المحمودي، التي تعرضت للتهديد بالقتل، برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الداخلية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وهذا السبب يبدو كافيا ليوضح مدى قصر فاعلية قانون حماية المبلغين عن الفساد المثير للجدل. وسبق أن أصدر الرئيس قيس سعيد قرارات تقضي بإنهاء مهام الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (هيئة مستقلة)، فيما قامت قوات الأمن بإخلاء مقر الهيئة والإشراف على حمايته، وذلك لتفادي إتلاف ملفات في غاية الخطورة مرتبطة بقضايا فساد. وجاء في بيان للرئاسة التونسية أن سعيّد “أصدر أمرا رئاسيا يقضي بإنهاء مهام أنور بن حسن الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”، مضيفا أن “المكلف بالشؤون الإدارية والمالية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سيتولى مباشرة جميع أعمال التصرف التي يقتضيها السير العادي لمصالح الهيئة، وذلك بصفة وقتية”. كما وضعت السلطات الأمنية الرئيس السابق لهيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب قيد الإقامة الجبرية، وذلك بعد ساعات من إخلاء الشرطة مقر الهيئة. وقال الطبيب في تدوينة على حسابه في فسيبوك “دورية أمنية ترابط أمام بيتي أعلمتني أنه صدر قرار بوضعي تحت الإقامة الجبرية، في خرق لحقي الذي يكفله القانون والدستور”.
مشاركة :